د .تدمري عبد الوهاب : حركات الإسلام السياسي والقصر/ أو بداية عصر الملكية الثانية والمشروعية المتنافرة

د .تدمري عبد الوهاب : حركات الإسلام السياسي والقصر/ أو بداية عصر الملكية الثانية والمشروعية المتنافرة د .تدمري عبد الوهاب

١/الاسلام السياسي و مشروع اخونة  المجتمع.
ان هذه القوى المنتسبة للحركة الوطنية المتنفذة التي طالما استقوت واستفادت من موروثها السياسي ومن المؤسسة الملكية بحكم تلك العلاقة التاريخية التي ربطت  بعضهما بالبعض وذلك على حساب الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية ، قد استنزف مخزونها الشعبي ليس فقط لكونها فشلت في تحقيق برامجها السياسية والوعود التي قطعتها علي نفسها بعيد مرحلة الاستقلال، وإنما كذلك لعجزها على إعادة إنتاج وتطوير مقومات استمرارها المتمثلة في الأرضية الفكرية والثقافية التي تحكمت من خلالها ولعقود من الزمن في مجمل العملية السياسية ومكنتها من احتلال أماكن قيادية في المؤسسات الدستورية المنتخبة  رغم ما كانت تشوب الاستحقاقات الانتخابية من تزوير ضدها من طرف الدولة المخزنية لصالح الأحزاب التي عمدت هذه الأخيرة إلى تأسيسها من أجل التحكم في المشهد الحزبي والخريطة الانتخابية ، وهي الأرضية التي أصبحت تؤثثها الآن حركات الإسلام السياسي التي اشتغلت وفق  منهجية و تصورات   استراتيجية متأنية عملت من خلالها على تغيير مجموع البنى الفكرية والثقافية لصالح مشروعها السياسي الاصولي، ساعدها في ذلك صعود منسوب الشعور الديني لدى فئات واسعة من الشعب المغربي ،علاقة بما يعيشه محيطنا الإقليمي وفشل جل الاطروحات السياسية السابقة التي ارتبطت بالحركات الوطنية والقومية ،واليسارية منها، بالإضافة إلي غياب الديمقراطية وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي  وما نتج عنه من هشاشة شاملة. هذا دون اغفال الدعم الذي قدمته لها الدولة المخزنية في سياق مواجهتها للقوى المطالبة بالتغيير الديمقراطي وبالخصوص قوى اليسار الجذري، وذلك إما بطريقة مباشرة  او غير مباشرة من خلال اعدامها لكل ما يحيل علي الفكر النقدي والتنويري في المقررات الدراسية والمناهج التعليمية من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية ،واستبدالها المتدرج بالفكر الديني والخرافي وتشجيع المدارس والمعاهد الدينية واعتماد المساجد كفضاءات رسمية لمحو الأمية ،أو ما سمي  بالتربية الغير النظامية، كما ساعدها في ذلك ما يعيشه محيطنا الإقليمي من تأجيج للصراعات الدينية والطائفية، والدعم المطلق من قوى الرأسمال العالمي التي ترى فيها أداة قادرة على ضبط المجتمع من جهة  وعلى تمرير مخططات مؤسساته المالية الدولية من جهة اخرى.
كل هذا ساهم في تسريع التحول الثقافي والفكري للمجتمع المغربي في اتجاه الأسلمة  على النمط المشرقي،  بالشكل الذي أصبح فيه يعيد إنتاج قيم جديدة تتسم بالحقد والكراهية واللاتسامح،  ورفض الآخر واستحسانه  لكل أشكال الريع  الديني. وهي كلها قيم بعيدة كل البعد عن موروثنا  الثقافي والحضاري الذي راكمه مجتمعنا المغربي منذ قرون من الزمن ،حيث كان هذا الأخير دوما كيانا سياسيا  مستقلا عن المشرق و مستعصيا  عليه.
إن هذا التحول الثقافي والفكري الذي يشهده المجتمع المغربي في اتجاه الأسلمة و الدعشنة، وكذا التحولات التي تعرفها منظومته القيمية  في غياب شبه كلي للنخب الثقافية والفكرية المتأثرة بالفكر التنويري و الحداثي، والذي من بين أسبابه كذلك حالة اليأس والإحباط الشاملة التي أحدثت فراغا هوياتيا  قاتلا ودفع فئات  واسعة من المجتمع الي البحث عن ملاذات  لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية ،وإن كانت ملاذات  سلفية مشرقية. كما أن هذا التحول في مجموع البنى  الفكرية والثقافية هو من بدا الآن يشكل حاضنة شعبية لحركات الإسلام السياسي التي استفادت من كل هذه العناصر والعوامل، إضافة إلى استغلالها بشكل جيد لعباءة إمارة المؤمنين ،وكذا اعتمادها آليات  سلسة وكل ما هو متوفر من بنيات تحتية دينية وروحية تسهل من استراتيجية استنفارها للشعور الديني لدى قواعدها خاصة وللشعب المغربي عامة، لما يشكله من مخزون احتياطي لها خاصة مع استمرار ارتفاع منسوب الإحساس بالأزمة والهشاشة و غياب تصورات مجتمعية بديلة مزاحمة لها، و للدولة المخزنية ،ولادواتها الحزبية القديمة منها والجديدة .
  ان هذه القواعد المشحونة فكريا وثقافيا و التي ما فتئت تتسع، هي  من شكل حاضنتها  التي بوأتها صدارة الاستحقاقات الجماعية والتشريعية  السابقة. وهي من سيغفر لها انتكاسات برامجها السياسية والاقتصادية من داخل الحكومات المقبلة ،وذلك من خلال إيجاد أعذار لها تحمل فيها المسؤولية تارة للدولة العميقة ،وتارة اخرى للقوى العلمانية والملحدة!  . وذلك كما فعلت سابقا نفس الحاضنة الشعبية، مع القوى المنتسبة للحركة الوطنية المتنفذة التي هيمنت ثقافيا وفكريا ومن ثم سياسيا على المشهد السياسي المغربي لعقود من الزمن.  وهو ما سيؤهلها كذلك لتبوء المؤسسات الدستورية لمرحلة ليست بالقصيرة ستساعدها بلا شك في توطيد تواجدها المجتمعي والدولتي، بما يتماهى وتكتيكاتها القائمة  على القضم المتدرج في أفق إعلاء دار الإسلام علي دار الكفر، حسب ما تدعيه وتشحن به قواعدها وذلك خدمة لإستراتيجيتها الغير المعلنة التي تروم إلى تأسيس دولة الخلافة التي تشكل الغاية الأسمى لكل حركات الإسلام السياسي السني بصفة عامة ،و للإخوان المسلمين بصفة خاصة ،وبالتالي استبدال دكتاتورية سياسية وأخرى دينية تكون فيها الديمقراطية، التي شكلت مطلبا تاريخيا للمجتمع المغربي، ضحيتهم المشتركة جميعا، وليس بالضرورة تفعيل برامج اقتصادية وتنموية تروم الى الرقي بالمستوى المعيشي للشعب المغربي .
إذا كنا قد وقفنا عند هذه التحولات العميقة للمجتمع المغربي في اتجاه الأسلمة و الدعشنة وانعكاساتها على المستقبل السياسي  لبلادنا فما سيكون عليه مصير الدولة المخزنية ونظامها السياسي في ظل هذه التحولات؟.

2/  من أخونة المجتمع الي أخونة الدولة :

ان نحن انطلقنا  من كون من يسود شعبيا وليس بالضرورة اقتصاديا فقط يسود سياسيا ،ولكون الدولة بصفة عامة كيانا سياسيا، فيمكننا أن نقول اننا دخلنا مرحلة نموذج سياسي تقليدي جديد بطابعه المشرقي، لا يروم الي أسلمة المجتمع فقط بل يتعداه إلى أبعد من ذلك وإلى آخر ما أنتجته هذه الحركات المتمثل أساسا في الدعشنة، (نسبة إلى داعش) التي شكلت أعلى مرحلة في تطورها ؛الذي بدأ بالمرحلة الدعوية مرورا بالمرحلة الحركية وانتهاء بالمرحلة الجهادية التي أفرزت داعش كآخر منتوج لها. وإنما يروم كذلك الي دعشنة الدولة  ويؤسس بذلك في مرحلته الأولى لقيام مرحلة ملكية ثانية التي ستستكين لهذه التحولات، بحيث يصعب عليها مواجهتها باعتماد ما سبق من آليات تقليدية التي سبق أن انتهجتها  مع باقي القوى التي كانت مناوئة لها في مراحل تاريخية وسياسية سابقة . 
إذن  يمكننا القول اننا ان سلمنا بالدور البارز للحركة الوطنية المتنفذة في تشكل عصر الملكية الأولي، مع بداية مرحلة الاستقلال حين عمدت المؤسسة الملكية إلى ارتداء سلهام هذه الحركة، مع كل التوافقات السياسية والفكرية والثقافية التي رافقت المرحلة، فإن ما يعيشه المجتمع والدولة حاليا من تحولات في اتجاه الأسلمة و الدعشنة سيؤسس لا محالة لعصر ملكية ثانية، ترتدي من خلاله هذه الاخيرة العمامة والعباءة المشرقية . لكن مع القول انه ورغم الاختلاف  في  الآليات والأهداف لكليهما، فإن الضحية الكبرى المشتركة بينهم جميعا هي القضية الديمقراطية وموروثنا الحضاري والديني الاصيل ، مع التأكيد كذلك على أن التوافقات التي ستتطلبها هذه التحولات ستكون  أكثر إجحافا في حق الشعب المغربي، بالشكل الذي ستؤسس معه لدكتاتورية مركبة دينية وثقافية وسياسية  ،تتعمق من خلالها اكثر فأكثر أزمة الانتقال إلى الديمقراطية بالمغرب، ويصبح النضال من أجل احقاقها أكثر صعوبة بما سيتطلبه من مجهودات نضالية مضاعفة، تقتضي مواجهة الفكر الأصولي الديني بشكل متزامن مع مواجهة كل أشكال الاستبداد السياسي والفكري والثقافي. 

إذن أن نحن اعتبرنا أن  الدولة المخزنية العميقة  المحكومة بطابعها المحافظ ، مؤهلة لأن تتأقلم مع كل الظروف كما فعلت تاريخيا مع القوي الاستعمارية قبل وبعد الحماية، ولاحقا مع الحركة الوطنية المتنفذة عندما ارتدت هذه المؤسسة سلهام هذه الحركة علي مضض،  دون أن تغلق  باب مناوراتها من أجل استرداد قوتها التي تؤهلها للانفراد بالسلطة السياسية والاقتصادية كلما أتيحت لها فرصة ذلك عبر أضعاف معارضيها، اما باعتماد القمع المباشر أو وسائط أخرى سياسية واقتصادية، كتأسيس أحزاب على المقاس من أجل خدمة أجندتها المباشرة وغير المباشرة، أو الترغيب باعتماد الريع الاقتصادي والسياسي، اوالترهيب باعتماد القمع ضد من اعتقدتهم خطأ خصوما سياسيين.
ولكونها كذلك بنية سياسية محافظة وتقليدية قائمة على أيديولوجية دينية تؤصل مفهوم الرعية على حساب المواطنة والتي طالما شكلت مجالا حصريا لها، قبل ان تتنازعه معها حركات الإسلام السياسي الأمر الذي لم يكن ليحصل مع قوى الحركة الوطنية المتنفذة التي هي من أصلت لأول مرة لمبدأ إمارة المؤمنين في دستور 1962، و فوتت من خلاله الشأن الديني للمؤسسة الملكية ، بحيث ابقته حكرا عليها فقط  وذلك بإضفاء صفة قداسة أهل البيت عليها.
إذن فالمشروع الذي تشتغل عليه حركات الإسلام السياسي، لا يسعى فقط الى دعشنة المجتمع كما يعتقد البعض، بل الي دعشنة الدولة  كذلك من خلال الاختراق المتدرج لمؤسساتها ، إلى حين تمكن هذه الحركات من مفاصلها الأساسية ،مما سيسهل عليها لاحقا عملية اجتثاث بعض القيم الحداثية فيها، المتأصلة  من عهد المرينيين الذين قاموا بأول إصلاح تحديثي لها ،مستفيدين في ذلك من الخبرات المتراكمة للكثير من الأطر اللاجئة مما تبقى من إمارات الأندلس، خاصة ممن عاصر منهم مرحلة بداية انطلاق النهضة الاوروبية، او التي اكتسبتها مع الحقبة الاستعمارية خاصة ما تعلق منها بارث المارشال ليوطي، كمؤسس فعلي للدولة المغربية الحديثة، وما تلاه من ارتباط اقتصادي وسياسي بالغرب الاستعماري، إضافة إلى تراث بعض قوى الحركة الوطنية المتنفذة في هذا المجال التي تلقت تعليمها بأوروبا وتأثرت بالنموذج الفرنسي في بناء و تطوير هياكل الدولة وفي نموذج أنظمتها السياسية والاقتصادية. ولو أن هذه القيم التي نحن بصدد الحديث عنها خاصة في عصرنا هذا، لم ترقي يوما إلى إحداث تغيير جوهري في الطبيعة المخزنية للدولة ،التي تأثر بها كثيرا المارشال ليوطي إلى درجة أنه عمد إلى الاحتفاظ بجوهرها، رغم كل الإصلاحات التحديثية التي قام بها وذلك  في تماهي كبير مع نموذج الدولة الفرنسية اليعقوبية ، كما  جاء في سياق  مذكراته.
أن هذا التناقض الذي يبدو للمتتبعين شاذا، الذي يجمع بين الدولة المخزنية والدولة اليعقوبية، وبين التقليد والحداثة، هو من شكل إحدى خصوصيات النظام السياسي المغربي الذي عمل على المزاوجة بينها لعقود من الزمن.
إذن وفي سياق هذه التحولات وفي غياب البدائل ، لاغرابة أن نحن شاهدنا يوما تغييرا دستوريا أساسه الدولة الدينية، باعتماد آلية الاستفتاء كآلية ديمقراطية تستند إلى  مبدأ حق الشعب في تقرير مصيره، بالشكل الذي سيوفر الأرضية الدستورية والقانونية لميلاد عصر الملكية الثانية، بما يعنيه من تحول قيمي لدى هذه الاخيرة، والإعلان رسميا عن نهاية عصر الملكية الأولي التي انطلقت مع الحركة الوطنية المتنفذة قبل وبعد الاستقلال مباشرة،  مع فارق أساسي وجوهري هو أنها يمكن أن تشكل بداية نهايتها أن لم تفطن المؤسسة الملكية لذلك قبل فوات الاوان، لكون استراتيجية حركات الإسلام السياسي بتنوعها، ورغم بعض اختلافاتها الجزئية  ، تروم كلها إلى  إقامة دولة الخلافة التي   تتناقض وأنظمة الحكم الملكية ،وإن بدت تكتيكيا متفقة ومدافعة عنها وعن مبدأ إمارة المؤمنين، كما فعلت العدالة والتنمية مع دستور 2011 عندما وظفت هذا المبدأ للدفاع عن الهوية الإسلامية للدولة المغربية، و اعترضت بالمقابل على كل ما يحيل إلى الحداثة من داخل فصوله  .وما يعزز هذا الطرح أيضا، الذي لم تستشعر المؤسسة الملكية خطورته أو استشعرته بشكل متأخر ،هو رهن مستقبل المغرب بمستقبل إمارات وملكيات الخليج من خلال انخراطه في مجلس تعاونها  بعد أن أصبحت هذه الاخيرة منقذه من الإفلاس الاقتصادي و المالي،  وهي المساعدات التي يكتسيها السواد لما تشترطه، في ضمان استمرارها، من تسهيلات   تيسر نشرالفكر الوهابي الحنبلي  و الاخواني الشافعي ، اضافة الي كل الحوافز الاقتصادية والتجارية التي تستمد وجودها من نظام الكفيل أوالعبودية المعاصرة، وهو ما يتجسد ايضا  في انخراط المملكة المغربية في الكثير من مخططات حروبها الطائفية  والدينية، وما مشاركة المغرب في الحرب اليمنية الي جانب ما سمي بالتحالف العربي، وهي الدولة التي تبعد عنا بآلاف الأميال ولا تشكل أدني تهديد لأمننا القومي، إضافة الي انخراطها  في الكثير من نزاعات الشرق الأوسط إلا تجسيدا لهذا التوجه ،الذي بالإضافة إلي خطورته علي الدولة والمجتمع، فانه أفقد المغرب دوره التاريخي الذي اتسم دائما باعتدال مواقفه والتزامه موقف  النأي بالنفس في النزاعات الداخلية للدول سواء المتواجدة بشمال أفريقيا أو الشرق الاوسط ،والذي كان يؤهله دوما للعب دور الوساطة من أجل الحفاظ علي وحدة هذه الدول وأنسجتها الاجتماعية. ومما يزيد من حدة هذا المسار الخارجي هو انكفاء النخب السياسية المغربية التي لم تولي أدنى أهمية لمدى خطورة هذه المواقف، التي يمكن لها في أي لحظة  أن ترتد  علينا بكل ما ستعنيه من تهديد لأمننا كبلد متعدد، و من  خصوصياته التاريخية، التعايش الاثني والمذهبي والديني، وانشغال هذه النخب بقضايا هامشية تشغل بها الرأي العام الوطني، بدل أن تستشعر خطورة هذه القرارات  ومدى ارتدادها عليها كقوى تدعي الحداثة والديموقراطية، وطرحها للنقاشات العمومية أن تعذر طرحها من داخل المؤسسات الدستورية، بما ستحيل عليه هذه النقاشات من مجابهة صريحة وعلانية للامتدادات المذهبية والدينية لحركات الإسلام السياسي في السياسة الخارجية المغربية.

إذن عندما قلت بالنموذج السياسي التقليدي المنفلت ،فهو يحمل كل مقومات انفلاته واستمراره وتوسعة شعبيا، في ظل استمرار حالة الإحباط الشاملة ،وغياب البدائل لدى الشعب المغربي التي كان من المفروض على النخب الفكرية والسياسية صياغتها، والدولة التي يمكن أن تبدو مستعصية ومعاندة في الوهلة الأولي من خلال اعتمادها لآلياتها التقليدية المباشرة والغير المباشرة من أجل الحفاظ علي شكل تواجدها ،سرعان  ما ستفشل في ذلك وستعود الي بنيتها الأصلية المحافظة التي لازمت تطورها حتى في أرقى مراحل تحديثها، مما سيسهل ويسرع أكثر من وتيرة استيعابها من طرف هذا النموذج التقليدي في طبعته  الدينية المشرقية. ولأن الدولة كذلك من طبيعتها التأقلم وإن اقتضى الأمر التحول من أجل ضمان استمرارها، لكونها ككل بنية ستقاوم من أجل أن لا تموت.
لكن ما لم تستشعره الدولة المخزنية ،وعلى رأسها المؤسسة الملكية ،عندما عملت على رعاية هذه الحركات الدينية وتشجيعها في مراحل تاريخية معينة من أجل مواجهة القوى اليسارية والديمقراطية، إضافة إلى تشجيعها للفكر الديني  في البرامج التعليمية والتربوية على حساب الفكر الحداثي التنويري.  هو أن طريقة أضعافها ومن ثم احتوائها للحركة الوطنية المتنفذة ،التي على خلاف هذه الحركات، رعت المؤسسة الملكية في كل مراحل ضعفها ، ولم يتجاوز  سقف مطالبها يوما الملكية الدستورية ، والتي حتى أن تنازعت في شخص الملك في مراحل تاريخية معينة، إلا أنها لم تنازع في العرش ابدا، وهي من  ابقت في المقابل المجال الديني حكرا عليه، رغم درايتها بأهمية هذا الحقل  في ترسيخ وتقوية هذه المؤسسة التي طالما استعانت به كلما اشتدت الأزمة بها، كما شكلت هذه الحركة قارب نجاة لها في الكثير من المحطات المفصلية، كان آخرها لجوء  هذه الاخيرة إليها، من أجل ضمان الانتقال السلس للعرش من الملك الراحل الحسن الثاني الى الملك الحالي محمد السادس، وذلك عندما التجأت هذه المؤسسة الى الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي، كرمز من رموز هذه الحركة، من أجل تشكيل ما سمي بحكومة التناوب التوافقية، مستثنية بذلك كل الأحزاب الإدارية التي هي من صنيعتها. هو أن هذه الطرق والآليات التي انتهجتها مع أحزاب عبرت تاريخيا عن ولائها المطلق للعرش،  سوف لن تكون مجدية ومفيدة مع حركات الإسلام السياسي ،التي  قد تبدو ظاهريا ،لا تنازع الملك في هذه المرحلة التكتيكية، لكنها في نفس الآن لا تبخل جهدا في سبيل  منازعة العرش في استراتيجيتها التي تروم إلى إقامة دولة الخلافة التي  سيشكل المغرب بموجبها، ولاية من ولاياتها،حتى وإن بدت تكتيكيا مدافعة  على مبدأ إمارة المؤمنين، لكن في نفس الوقت الذي تعمل فيه جاهدة على منازعته بشكل صريح في تدبير الحقل الديني ،كمقدمة للاستئثار به كليا، في أفق أعمال النص القرآني في وصف الملوك، وما فتوى جزاء " المرتد" الصادرة عن المجلس  العلمي الأعلى ، سوى نقطة من فيض من الفتاوى التي اصبحت تؤثث وتوجه علاقاتنا الانسانية والاجتماعية بل طالت حتى طريقة ممارسة عبادتنا المتأصلة في موروثنا الديني.  هذا دون استحضار مجموعة من القوانين والتشريعات التي استصدرتها من داخل موقعها في رأسه الحكومة  التي تحد من الحريات الفردية والجماعية .
ان كل هذه المؤشرات التي استنبطناها من خلال هذا التحليل، هي من تحيل إذن إلى القول بأن هذه الحركات لا تروم الى دعشنة المجتمع  فقط، بل تتخطاه إلى الدولة والعرش ،الذي سيفقد مبررات وجوده مع قيام دولة الخلافة الإسلامية، التي تشكل الهدف الأسمى لكل حركات الإسلام السياسي السني.