عادت مؤخرا أحداث الريف لسنتي 1958 ـ 1959 إلى الواجهة بعد الخرجة غير المتوقعة، لنزار بركة بمدينة الحسيمة حيث أعلن أنه مستعد لفتح ورش المصالحة مع المنطقة وتقديم الاعتذار في حال ثبوت علاقة الحزب ورجالاته بالأحداث الأليمة لسنتي 1958 و1959، وذلك في أفق الطي النهائي لهذا الملف.
لكن يبدو أن خرجة حزب الإستقلال الهدف منها هو استمالة أصوات الناخبين والبحث عن موقع قدم بالمنطقة واستغلال الغضب الشعبي بعد صدورالأحكام القاسية الصادرة على معتقلي حراك الريف .
ومن المؤكد أن أحداث الريف لسنتي 1958 ـ 1959 أو ما يسمى بعام الجبل أو الصعود للجبل لم تكن موجهة ضد سلطة الملك الراحل محمد الخامس طيب الله تراه حيث كان الملك يحضى بإعجاب وتقدير كبير من قبل كل سكان قبائل الريف، بل كانت حركة احتجاجية ضد هيمنة حزب الإستقلال على كل دواليب الدولة وحزبنتها بمعنى أنه لتكون موظفا أو مسؤولا في الدولة ينبغي أن تكون ضروريا تنتمي لحزب الإستقلال انطلاقا من المقدم إلى الشيخ إلى القايد وهكذا كانت تسير الأمور في ظل هينة حزب الإستقلال ، وهو الأمر الذي ينطبق على باقي القطاعات، مع استبعاد كل الخصوم السياسيين آنذاك الشوريين بالأساسيين ، أو شيوعيين أو حتى بالنسبة للمواطنين الذي لم يكون لديهم أي انتماء سياسي معين.
كيف سيتم فتح تحقيق في هذه الأحداث الأليمة التي عاشها أبناء المنطقة خلال أواخر الخمسينات بعد تعذيب الآلاف من المواطنين وتشريد العديد من الأسر ، والمؤكد من خلال الوثائق والعديد من الكتب المنشورة والشهادات المسجلة أن حزب الإستقلال كان متورطا في الجرائم التي تعرض لها العديد من المناضلين والمعارضين لسياسته من خلال اختطاف مناضلي حزب الشورى والإستقلال وتصفيتهم بالمنطقة .
ولعل الرسالة التي بعثها المجاهد عبد الكريم الخطابي لزعيم حزب الشورى والإستقلال محمد بلحسن الوزاني بتاريخ 27 يوليوز 1960 تكشف بالملموس أسماء المعتقلات ومراكز التعذيب والتقتيل وهي تناهز 100 معتقل سري ، ويحدد عدد المعتقلين في 9672 كلها معروفة بالإسم واللقب .
وتكشف الرسالة عن جرائم وقعت في شهر ماي من سنة 1956 منها اغتيال عبد الواحد العراقي كاتب فرع حزب الشورى والاستقلال بمدينة فاس وممثل العلماء في استشارات "إيكس ليبان"، والسبب كان هو دعوته عبر أمواج الإذاعة الوطنية إلى حل جيش التحرير.
وفي كتاب "دار بريشة أو قصة مختطف"، يقدم صاحبه المهدي المومني التجكاني العضو في حزب الشورى والاستقلال، شهادة حول ما تعرض له عبد السلام الطود القيادي في حزب الشورى والاستقلال، مشيرا إلى أنه بدأت عملية جلده بواسطة الحبال المفتولة المبللة بالماء والملح من الساعة التاسعة مساء إلى السادسة صباحا، كما أن القائمون على المعتقل كانوا يقومون بإحضار إبراهيم الوزاني القيادي بنفس الحزب ليرى زميله الطود يتعذب وكان هذا نوعا من العذاب النفسي له.
وقد شكل معتقل "دار بريشة" الذي يقع بمدينة تطوان إحدى النقط السوداء في هذه المرحلة من تاريخ المغرب السياسي، حيث مورست فيها شتى أنواع التعذيب في حق الذين كانوا يختلفون في آرائهم وتصوراتهم مع حزب الاستقلال الطامح للهيمنة على الحكم والاستفراد به عن طريق "الحزب الوحيد".
وتعتبر دار بريشة معتقلا سابقا، وهو من أقدم المعتقلات بالمغرب المستقل، ويقع بحي المحنش بتطوان ، هذا المعتقل مورست فيه أبشع أنواع التعذيب والجرائم .
ودار بريشة هي نموذج من بين مجموعة من النماذج الأخرى لمعتقلات بشمال المغرب ومن بينها دار القائد المفضل الزروالي بمدينة شفشاون، ودار الريسوني بتطوان، ودار الخمال بتطوان.
وعن أشكال التعذيب بمعتقل دار بريشة تحدث التجكاني في كتابه "دار بريشة أو قصة مختطف" قائلا "كان التعذيب في دار بريشة فنونا وألوانا، من أهم ألوان التعذيب، بالنسبة للداخل الجديد، أنه يدخل إلى محل هناك خارج باب الدار،كان عند صاحبها فيما قبل اصطبلا للماشية، أو مخزنا للحبوب، أو غير ذلك، وعلى كل فإن اسم المكان عرف بيننا نحن السجناء ب "كورنة " أي المجزرة، ووجه الشبه بين المجزرة الحقيقية، و" كورنة " دار بريشة في صفتها الحالية، الذبح والسلخ في كل ما يقول البلاغيون".
كان الوافد الجديد، بحسب ما يحكي التجكاني أو المعتقل يدخل إلى هذا المحل فيجرد من ملابسه كلها، ويمدد على كرسي خشبي طويل مجردا من ثيابه، فيربط بحبل مع الكرسي من أخمص قدميه إلى عنقه ربطا محكما حتى لا يتحرك إلا إذا كان قويا فيتحرك معه الكرسي ليسقطا معا على أرضية المكان الملطخة ببراز المعذبين ودمائهم ليتلقى الضرب المبرح بالحبال المفتولة التي كانت تبلل بالماء المملح ليزداد مفعول الألم حدة وشدة.
وثاني العمليات، تتمثل بحسب نفس المصدر في برميل كبير وضع في زاوية من زوايا المكان، كان يملأ إلى ثلثيه بولا وغائطا وماء، ومفاعيل كيماوية أخرى كالصابون وجافيل، ثم يخلط الجميع ويحرك حتى يصير خليطا كيماويا واحدا، ثم يحل رباط المستنطق من كرسي تعذيبه ويوثق مرة أخرى بين سواعد المعذبين المفتولة من رجليه، فيغمس في البرميل من جهة الرأس إلى حزامه ويترك لمدة "كالغريق المسلم نفسه إلى مياه البحر، لتدخل كيف شاءت إلى أعماقه وأحشائه.
إضافة إلى هذا تحدث التجكاني عن عمليات الاستنطاق التي كانت تتم عن طريق التيار الكهربائي، حيث يؤخذ التيار الكهربائي مباشرة من أسلاك الشبكة الموجودة، ويوضع على الأعضاء الحساسة في الجسم، خصوصا تحت الإبطين، وفي العضو التناسلي للشخص المستنطق، وبحسبه فإن هذه العملية كانت الأكثر تأثيرا على كيان الجسم بأجمعه، مشيرا إلى أن كل هذه العمليات، تكون مصحوبة بكلمة "قل".
وكانت هذه الصور مجرد جزء من أنماط التعذيب التي عانى منها المعتقلون بدار بريشة، والتي جاءت بين صفحات كتاب "دار بريشة أو قصة مختطف" وهي شهادة لصاحب الكتاب الذي عاش تجربة الاعتقال بنفس الدار وعانى ويلات التعذيب.
فكيف سيفتح حزب الإستقلال تحقيقا في هذه الجرائم التي ارتكبها في حق المواطنين والمناضلين وخصومه السياسيين ؟ من أين سيبدأ هذه التحقيق ؟ وهل سيتم إحياء هذا الملف بعد العمل الذي قامت به هيئة الإنصاف والمصالحة؟ أم أنها شعبوية سياسية تستهدف البحث عن موقع قدم بالمنطقة ؟.