وإذا كانت التجارب الدستورية، التي سبقت دستور 2011، قد أجازت للملك وبشكل صريح حق إقالة الوزير الأول، فإن دستور 2011 ليس فيه ما يشير، صراحة، إلى إمكانية إقالة الملك لرئيس الحكومة؛ وهو ما يحمل أكثر من دلالة؛ مفادها احترام الملك لإرادة الأمة التي اختارت رئيس الحكومة باختيارها للحزب الذي ينتمي إليه. بيد أن الوضع الدستوري المتقدم للملك - وفي أكثر من فصل دستوري- قد خول، بشكل غير مباشر، للملك هذه الإمكانية؛ فحقه في حل مجلس النواب - بناء على الفصل 51- يجعل من إعفاء رئيس الحكومة حقا قد يمارسه الملك بشكل غير مباشر، طالما أن هذا الأخير، إنما يستمد شرعيته من انتمائه للحزب الذي تصدر انتخابات أعضاء هذا المجلس. وبالتالي، فحل مجلس النواب من طرف الملك، معناه الدعوة الضمنية لرئيس الحكومة إلى تقديم الاستقالة، طالما أن أساس التواجد قد فقد، ومصدر الشرعية قد غاب؛ وهو ما يعبر عنه في بعض الأنظمة المقارنة ب " الإقالة المبطنة بالاستقالة". وإن كان الخطاب الذي وجهه الملك إلى الأمة حول مشروع الدستور الجديد بتاريخ 17 يونيو 2011 قد أكد على"... الانبثاق الديمقراطي للسلطة التنفيذية، بقيادة رئيس الحكومة. وفي هذا الصدد، سيتم الارتقاء بالمكانة الدستورية " للوزير الأول" إلى "رئيس للحكومة"، وللجهاز التنفيذي، الذي يتم تعيينه من الحزب الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، تجسيدا لانبثاق الحكومة عن الاقتراع العام المباشر"، إلا أن ذلك لا يعني منح رئيس الحكومة شيكا على بياض، في الاختيار والعمل ورسم التوجهات الكبرى والاستراتيجية للبلاد، وإنما يعني ذلك، بالدرجة الأولى، تقوية مكانته كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية وفاعلة، تسمح له بتحمل مسؤولياته الحكومية التي يتضمنها برنامجه الحكومي، والعمل على تطبيقه وفق المتفق بشأنه مع ممثلي الأمة أثناء تقديمه لهذا البرنامج أمام البرلمان، توطيدا لمبدأ فصل السلط وتوازنها وتعاونها. إن أي حكومة ناجحة يجب أن تتوفر على برنامج شامل ومتكامل، باختيارات وبرامج دقيقة وتوجهات استراتيجية محددة؛ فمشروع قانون المالية السنوي مثلا يعتبر أهم مناسبة لتكريس هذه الاختيارات وهذه البرامج؛ لذلك، فهو يحتاج إلي الكثير من الخبرة والكفاءة والتأهيل؛ وهو ما عبر عنه الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للسنة التشريعية 2010- 2011، عندما اعتبر بأن "...الأمر لا يتعلق بالمناقشة والتصويت على مجرد موازنة حسابات وأرقام، بل بالتجسيد الملموس للاختيارات والبرامج التنموية الكبرى للبلاد"؛ وهو ما أكده كذلك، وبصريح العبارة، الخطاب الملكي الأخير بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية التاسعة بتاريخ 11 أكتوبر 2013، حينما اعتبر بأن " المجالس الجماعية هي المسؤولة عن تدبير الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن كل يوم، أما الحكومة، فتقوم بوضع السياسات العمومية والمخططات القطاعية وتعمل على تطبيقيها". وجاء خطاب المسيرة الأخير ل 6 نونبر2016 ليكرس هذا المعنى بكل صراحة ووضوح، عندما أكد جلالة الملك على ضرورة أن تكون الحكومة المقبلة على "حكومة مؤهلة في تخصصات قطاعية محددة"، كما أكد جلالته في الوقت نفسه بأنه "لن يتسامح هذه المرة مع أي محاولة للخروج عن هذه المنهجية"؛ المنهجية الدقيقة في الاختيار، المبنية فقط على الكفاءة والتخصص والتأهيل، وليس على أي شيء آخر، وذلك ضمانا لتنمية الدولة وتقدمها واستقرارها واستمرارها. وغير ذلك، فالملك يتمتع بسلطات واسعة، تمكنه من ممارسة اختصاصاته في شتى المجالات التي لها ارتباط بانتظام أحوال الدولة، وضمان دوامها واستمرارها، وخاصة منها، تلك التي لم تسند صراحة لا للبرلمان ولا الحكومة؛ وهو ما يمكن أن يستشف بالأساس من منطوق الفصلين 41 و 42 من دستور2011 "الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. . ." و " الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. . ." وهو تقريبا نفس محتوى الفصل 19 من دستور 1996 الذي كان ينص على أن " الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، لكونه الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة، على أساس ألا تنتهك حرمته لقداسة شخصه". إذن هي دعوة ملكية صريحة ل"رئيس الحكومة المكلف" كي تتوفر حكومته المقبلة على كفاءات وطنية حقيقية، بمواصفات دقيقة، ومؤهلات استثنائية. وألا يتم اختيار الوزراء كما هي العادة، من طرف ومن بين فئة محدودة وضيقة جدا، من بين رؤساء الأحزاب ومن يدور في فلكهم، حتى وإن لم يتوفروا على أي تأهيل أو تكوين، كما وقع مع ترشيحات الاستوزار للحكومة السابقة المنتهية ولايتها، مما أفرز لنا حكومة ضعيفة وغير مؤهلة، بوزراء معظمهم غير متخصصين، ولا يتوفرون على الصفات والسمات والمؤهلات الدقيقة والمطلوبة لتقلد مهنة جسيمة وثقيلة وكبيرة؛ وهي "مهنة وزير". والحقيقة أنهم ليسو كلهم قابلون للاستوزار، بل قد لا يتمكن بعضهم من اجتياز حتى مباراة لاختيار كاتب عام أو مدير أو رئيس قسم أو حتى رئيس مصلحة... إذا تم فعلا إعمال مبادئ تكافؤ الفرص والاستحقاق والكفاءة والشفافية، كما جاء في الدستور الذي نص على"... تعيين الكتاب العامين، ومديري الإدارات المركزية بالإدارات العمومية، ورؤساء الجامعات والعمداء، ومديري المدارس والمؤسسات العليا. وللقانون التنظيمي المشار إليه في الفصل 49 من هذا الدستور، أن يتمم لائحة الوظائف التي يتم التعيين فيها في مجلس الحكومة. ويحدد هذا القانون التنظيمي، على وجه الخصوص، مبادئ ومعايير التعيين في هذه الوظائف، لاسيما منها مبادئ تكافؤ الفرص والاستحقاق والكفاءة والشفافية"(الفصل92). فلماذا إذن تجرى المباريات لشغل هذه الوظائف كلها ولا يتم أي فحص أو تشخيص لاختبار القوى الصحية والنفسية والعقلية للمرشحين للاستوزار، ولا أي مسطرة صارمة للتأكد من مؤهلاتهم العلمية وخبرتهم المهنية وقدرتهم على تحمل المسؤولية. إننا بحاجة اليوم، وتجنبا لأخطاء الماضي، وما أكترها، إلى حكومة قوية وقادرة على الإنجاز، متفاعلة مع انتظارات الناس ومطالبهم وقضاياهم ومشاكلهم؛ حكومة غير شعبوية، لا تختزل الحلول لمشاكل البلاد في رفع شعار محاربة الفساد والاستبداد و"الحكامة الجيدة"، وتقف عندها من دون معرفة مغزاها، ومن دون اتخاذ أي إجراء ملموس أو رسم أي خطة واضحة في سبيل ذلك (فالحكامة الجيدة بالمناسبة ليست سياسة أو برنامجا أو استراتيجية، وإنما هي مبادىء فقط وقيم عامة تساعد على حسن التدبير والحكم الصالح) حكومة تقول وتفعل، تعد وتنفذ، ولو بنسبة 25% وهي بالمناسبة النسبة نفسها، رغم قلتها، التي مكنت السيد عبد الإله بنكيران من أن يصل إلى رئاسة الحكومة، ويقتسم السلطة مع الملك و يحضى، ولو لبضع دقائق، بالمثول بين يدي جلالته، في نظام وانتظام وخشوع تام، كأن على رأسه الطير، ليخرج بعذ ذلك من القصر، في حالة غير التي دخل عليها. فلا يعقل مثلا أن يتولى شخص منصب وزير في التعليم العالي، وهو لم يكن في يوم من الأيام أستاذا جامعيا، وهذا أضعف الإيمان، أو عميدا لمؤسسة جامعية أو رئيسا لجامعة، أو حتى موظفا قد مر في يوم من الأيام من الإدارة وخبر شؤونها وتعقيداتها، أو لم يسبق له أن تقلد مسؤولية أو أشرف على أي مشروع أو قاد فريق عمل؛ فكيف لهذا الوزير المسكين أن يسير قطاعا مهما وحساسا وخطيرا، كالتعليم العالي، وهو لا يعلم عنه شيئا، وليس له أدنى معرفة بالجامعة وبخصوصيتها وأحوالها، ورهاناتها وتحدياتها، وقوانينها وأنظمتها وهياكلها ومؤسساتها وبرامجها ومناهجها... كيف سيبدع هذا الوزير وينتج ويقترح السياسة العمومية الناجعة لهذا القطاع. أليس هذا هو العبث وعدم المسؤولية؛ فلا يكفي أن تكون عضوا في "أمانة عامة" أو "مكتب سياسي" لحزب مشارك في الحكومة حتى تصبح وزيرا؛ فالحزبية لوحدها لا تكفي اليوم لأن يصير حاملها وزيرا. وهل هناك ما يلزم رئيس الحكومة دستوريا وقانونا من اختيار المرشحين للاستوزار واقتراحهم على جلالة الملك من بين مناضلي الأحزاب فقط دون غيرهم، حتى وإن لم تتوفر فيهم الشروط والمواصفات الدقيقة والمطلوبة، أم يجب بل ومصلحة البلاد والعباد تفرض الانفتاح على جميع المغاربة؛ فمن بينهم من الأطر العليا والكفاءات المؤهلة الأعداد الكثيرة، لكن من يلتفت إليهم أو يبحث عنهم. ولماذا كلما تعلق الأمر بالتعيين من طرف جلالة الملك، في المناصب السامية أو على رأس المؤسسات الدستورية أو الاستراتيجية، إلا و تكون الاختيارات دائما موفقة والأسماء وازنة. لقد أصبح اليوم الترشيح للاستوزار من أسهل ما يكون، يكفي أن تكون عضوا نافذا في حزب مقبل على المشاركة في الحكومة، لتصبح مشروع وزير؛ فالكل سيأتي عليه الدور، اليوم أو غدا. كيف لا وأعضاء "الأمانات العامة" و"المكاتب السياسية" و"اللجان المركزية"... للأحزاب السياسية هم الذين توكل إليهم مهمة الترشيح والترشح والاختيار؛ فلم يرشحون سواهم ولا يرشحون أنفسهم، حتى وإن لم يتوفروا عل أي شرط من الشروط المطلوبة في هكذا منصب؛ وأقلها أن يتم الاختيار، صحيح، وفق مسطرة ديمقراطية نزيهة، ولكن أن يتم، وهذا هو الأهم، تبعا لمعايير دقيقة، وأن يملك المرشح سمات شخصية ومؤهلات مهنية؛ وأن يملك إلى جانب ذلك الموهبة والملكة والدافع والإيمان بنبل الرسالة وثقل المسؤولية؛ وأن يكون مستعدا في أي وقت لتقديم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية؛ وأن يكون ذو خبرة وكفاءة عالية، وتخصص قطاعي دقيق، مما يمكنه من التعامل مع التطورات ومسايرة المتغيرات؛ وأن يكون متقنا للغات الأجنبية، أقلها الفرنسية والإنجليزية، فلا أتصور وزيرا لا ينطق سوى العربية، هذا الوزير مكانه الطبيعي دور محاربة الأمية. غير ذلك نغامر بهيبة الدولة ومستقبلها. كذلك أن يخبر المرشح للاستوزار دواليب الدولة؛ وأن يكون قد مر من الإدارة واشتغل بها لمدة طويلة و يعرف خباياها، وخاصة القطاع الذي يريد الإشراف علية، خاصة إذا علمنا بأن الوزير في حكومة، منصب سامي، وله مهام وصلاحيات كبيرة واستراتيجية، من قبيل "... تنفيذ البرنامج الحكومي و ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية" (الفصل 89). دون ذلك على المرشح للاستوزار في الحكومة المقبلة أن يستحيي من نفسه وأن يتوارى إلى الخلف في صمت ومن دون ضجيج، ليفسح المجال للمستحقين؛ وليعلم تمام العلم بأن جلالة الملك لن يتسامح هذه المرة مع أي محاولة للخروج عن المنهجية الدقيقة والموضوعية والصارمة في الاختيار. إن الحكومة؛ أي حكومة هي في الواقع مجرد وسيلة وآلية للعمل؛ وهي تكليف ومسؤولية، وليست شرفا أو ترفا أو مجدا؛ وهي قبل كل شيء عبء ثقيل وأمانة عظيمة؛ فلا تكفي وحدها المنهجية المتبعة أو المسطرة المعتمدة من طرف الأحزاب في اقتراح المرشحين للاستوزار، مهما بدت شفافيتها ونزاهتها وديمقراطيتها، بما أنها تمنح "لرئيس الحكومة المعين"، في نهاية المطاف، الحق المطلق والكلمة الفصل للتزكية وللاختيار.. قبل اقتراح الأسماء على جلالة الملك. كذلك لا يهم أن تكون الحكومة الجديدة ملتحية؛ فالدين لا يطعم المواطنين واللحية لا تحقق تنمية كما أن القبل لا تمنح الأمل وحرارة العناقات لا تقي المجتمع الشرور والأزمات، أو أن تكون حكومة من دون نساء؛ فمطلب المناصفة توارى إلى الخلف هذه الأيام ولم نعد نسمع به إطلاقا، رغم تأكيد الدستور الجديد عليه. والنساء الديمقراطيات، الحداثيات، المناضلات والمدافعات عن المرأة وعن حقها في التمكين الاقتصادي والسياسي، قد خرس صوتهن هذه الأيام، لأنهن يعلمن جيدا أنهن لن يستفدن في النهاية من هذا التمكين، ولذلك ربما آثرن عدم الخوض أصلا في هذا الموضوع، رغم أن الحق حق، وهو غير قابل، على أي حال من الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف ، للتجزيء ولا للابتزاز والمساومة.