تدمري: في تحليل الخطاب وتبيان الخطأ من الصواب لمن يهمهم أمر البلاد والعباد

 تدمري: في تحليل الخطاب وتبيان الخطأ من الصواب لمن يهمهم أمر البلاد والعباد د. عبد الوهاب تدمري

عندما أستحضر خطاب الملك الراحل الحسن الثاني على إثر انتفاضة 1984 وما صاحبها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حق أهالينا ببلاد الريف.

عندما أستحضر مضمون هذا الخطاب، ليس فقط في ما يتضمنه من أوصاف قدحية وسب وشتم في حق ساكنة الريف الكبير، أو ما تضمنه من اتهامات لهم بالعمالة للأجنبي، والتآمر من أجل زعزعة الأمن والاستقرار في ربوع الوطن. بل في ما يبطنه الخطاب من حضور للتاريخ في الذاكرة المخزنية بكل ما يتسم به من صراع سياسي بين هذه المنطقة والسلطة المركزية. وبكل ما شاب علاقة الطرفين من توترات متعاقبة عبر التاريخ أدت إلى مزيد من فقدان الثقة المتبادلة.

كما أن الخطاب لم يكن ليقف عند انتفاضة 1984 فقط وما رافقها من مآسي، بل تخطاها بشكل مقصود حتى يذكر الشعب في مختلف ربوع الوطن، وليس الريف فقط، بجبروت السلطة المخزنية التي يجب أن تكون عبرة ورادعا للجميع، إعمالا لروح خطاب ميكيافل القاضي بأن الأمير يجب أن يثير خوف الناس وليس حبهم وذلك في معرض حديثه عن الحوار الذي دار بينه وبين والده الملك الراحل محمد الخامس، عندما اختلف معه وعبر عن استعداده لتصفية الثلث من أجل أن يحيى الثلثين ممن يقولون عاش، وذلك في ترجمة صريحة لمفهوم هوبز للتعاقد الذي يشرعن لمفهوم الحاكم المستبد، هذا دون إخفاء ما اتسم به كلامه من ليونة، عندما انتقل للحديث عن ساكنة مراكش الذي حاول أن يميز فيها بين الأخيار والأشرار، وعن عدم رضاه عن ما قاموا به من تظاهرات واحتجاجات. في مقابل لهجة كلها سبا و تهديدا ووعيدا في حق أبناء الريف الكبير، أو كما سماها بالشمال، مع تحديد صريح لمجاله الجغرافي و التاريخي، الذي تجاوز فيه التقسيم الإداري الرسمي للجهات الاستشارية الاقتصادية لسنة 1971، والذي حدد جغرافيته بشكل دقيق، عندما قال من القصر الكبير إلى الناظور مرورا بتطوان، وبما تضمنه من إيحاءات واعترافات ضمنية، بمسؤولية الدولة المخزنية التي كثفها في شخصه، عن كل ما حدث من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في هذه المنطقة أواخر مرحلة الخمسينات من القرن الماضي بمعية ملشيات حزب الاستقلال، وما تخللها من اختطافات وإعدامات خارج نطاق القانون في حق نشطاء وأعضاء منحدرين من مختلف ربوع بلاد الريف، ومن مناطق أخرى من الوطن المنتسبين إلى ما يعرف بالهيأة الريفية، و التي أشرفت الدائرة السابعة في مدينة الدار البيضاء التي شكلت آنذاك مقر القيادة عامة للمليشيات الاستقلالية، على الاعتقالات والإعدامات، لعشرات من المناضلين الشرفاء المنتسبين إليها من شوريين ومن حزب المغرب الحر وفعاليات مناضلة مستقلة الرافضة لا وفاق إكس ليبان.

وذلك بعد أن جمعت بين السلطة التنفيذية والقضاىية و سلطة النيابة العامة خاصة سنتي 56 و57 (وبالمناسبة فإن أرشيف هذه القضية يتواجد في مكتبة د. مصطفي بوعزيز، رئيس مؤسسة بن سعيد آيت يدر، الذي أقر بأخذه خلال ندوة نظمها المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف سنة 2013 بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة من الأرشيف الوطني، قسم التاريخ السياسي المعاصر).

وفي الخطاب أيضا اعتراف صريح عن مسؤوليته، عن ما تعرض له أهلنا بالريف الأوسط من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إبان انتفاضة (58 – 59)، التي كانت الحلقة الأخيرة في مسلسل الانتهاكات لمرحلة الخمسينات من القرن الماضي في حق المشروعية التاريخية التي كان يتمثلها مناضلون شرفاء من الريف الكبير و من مختلف ربوع الوطن، و الذين كانوا مع عملية استكمال التحرير وبناء الدولة الدموقراطية المستقلة الضامنة للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

كما أن الخطاب، بالإضافة إلى كونه صادر عن الملك الراحل بصفته رئيسا للدولة، وفق مقتضيات الدستور آنذاك، إلا أنه كذلك يمكن القول، أنه كان يكثف صفته المخزنية وذلك في تماهي صارخ بين المخزن والقصر والدولة. كما أن هذا الخطاب رغم ما يتسم به من انفعالية إلا أنه كذلك يحيل على المضمر في استراتيجية السلطة المخزنية في ما يخص طبيعة علاقتها بالمنطقة الشمالية، التي تبين الكثير من الاحداث الأليمة اللاحقة التي شهدتها، ولازالت تشهدها، هذه المنطقة ثبات هذه الاستراتيجية، رغم كل ما قام به ملك البلاد الحالي، خاصة بعد توليه العرش مباشرة، من محاولات للقطع مع هذه الاستراتيجية والعمل على خلق مسافة بين القصر و المؤسسة المخزنية، من خلال التقليل من بعض طقوسها العتيقة، وإبراز بعض مظاهر الحداثة في المؤسسة الملكية، وإطلاق مبادرة الإنصاف والمصالحة، رغم كل العيوب التي شابتها، بنية القطع مع ماضي الانتهاكات الجسيمة المحسوبة على الدولة المخزنية في شخص والده الملك الراحل، الذي كان يشكل الرمز المكثف لها. دون أن ننسى محاولاته الحثيثة كذلك لتصحيح تلك العلاقة المتوترة تاريخيا بين العرش والريف والشعب عامة، بالشكل الذي يؤسس لاستراتيجية أخرى مغايرة لسلفه، تروم إلى استرجاع الثقة المتبادلة بين القصر والدولة والمجتمع. هذا رغم كل الصعوبات التي كانت تكتنف هذه العملية، علاقة بالمعوقات التي كانت تنسجها جيوب المقاومة المخزنية، من داخل مفاصل الدولة، التي لم تكن راضية عن هذه التحولات في بنية النظام السياسي المغربي، وذلك حتى في بساطتها، نظرا لما يمكن أن تشكله من تهديد حقيقي لمصالحها المتراكمة من داخل المنظومة المخزنية.

لكن يبدو أن استراتيجية الملك الراحل إزاء الشمال كان لها وقع الصدى والأثر الكبير على اللوبي المخزني المتحكم في مفاصل الدولة، الذي استشعر خطورة هذه الاستراتيجية التي ربما كانت قد بدأت تتعمق إبان العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين. وهي المرحلة التي تميزت بتراكمات مهمة، رغم نسبيتها، في مجال الحقوق والحريات. إلا أن ما يبين هشاشة هذا الوضع بكل ما تميز به من مكتسبات، لا يمكن إنكارها، هو أنه مباشرة بعد أن تصاعدت من جديد وتيرة الاحتجاجات، وارتفع منسوب الصراع الاجتماعي والسياسي، مع بداية العشرية الثانية، علاقة بتأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تحركت الآلة المخزنية لأخذ زمام المبادرة مسترشدة في ذلك باستراتيجية الملك الراحل في التعاطي مع المطالب العادلة والمشروعة للشعب المغربي عامة والريف خاصة. وهو ما تجلى واضحا في طريقة تعاطي الدولة المخزنية مع انتفاضة 20 فبراير وما تلاها من استمرار للاحتجاجات في مختلف مدن الريف الكبير المطالبة بالتنمية والحرية والعدالة الاجتماعية؛ بكل ما رافقها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تمثلت في استشهاد خمسة نشطاء في ما يعرف بمحرقة البنك الشعبي بالحسيمة، اغتيال كمال الحساني ببني بوعياش، ونبيل الزهري بتازة، بالإضافة لأكثر من 200 معتقل ينحدرون من مختلف حواضر بلاد الريف الذين صدرت في حقهم أحكام انتقامية وظالمة وعلى رأسهم الاستاذ محمد جلول، والناشط البشير بن شعيب، إضافة إلى نشطاء آخرين وهي الانتهاكات التي اعتبرها أحد المسؤولين السياسيين (بن عتيق) آن ذاك،الذي حضر إحدى الاجتماعات الخاصة والمغلقة لرؤساء الأحزاب التي دعت لها الدولة المخزنية من خارج شيء اسمه المؤسسات الدستورية، من أجل خلق إجماع وطني على رفض المشروع الأممي الذي كان يروم إلى توسيع صلاحيات المينورسو بجهة الصحراء، إنها تفوق بكثير الانتهاكات التي حصلت بالصحراء وذلك وفق ما صرح به لهم وزير الداخلية آنذاك حسب قوله. كما أن ما يشهده الريف حاليا من حراك شعبي، و من حصار وقمع واعتقالات وأحكام ظالمة في حق نشطائه، والإجهاز على الحقوق والحريات، ومنع كل أشكال التجمهر والتظاهر السلميين، وكل الأنشطة الحقوقية على امتداد المجال الجغرافي للريف التاريخي، ما هو إلا أعمال لتلك الإستراتيجية المخزنية، التي تجعل من بلاد الريف منطقة أمنية، يتحكم فيها منطق عدم الثقة والتوجس التاريخي من مطالبها، حتى وان كانت اجتماعية واقتصادية.

إن ما يشهده الريف بصفة خاصة، وما يشهده المغرب بصفة عامة، من قمع و إجهاز على الحقوق والحريات، واعتقال المئات من نشطاء الحراك الشعبي و تقديمهم لمحاكمات صورية جماعية قل نظيرها في تاريخ المغرب المعاصر، هو قطع مع ما كل ما تمت مراكمته إبان بداية مرحلة حكم الملك الحالي، وتراجع خطير على كل المكتسبات في مجالي الحقوق والحريات ،بما يؤشر على العودة إلى الأصول المخزنية للدولة كما نظر لها الملك الراحل الحسن الثاني.

إن هذه العودة يمكن اعتبارها تندرج ضمن باب الخطأ الجسيم، نظرا لما يمكن أن تؤدي إليه هذه المغامرة من تهديد لوحدة الوطن، وتفكيك للنسيج الاجتماعي المغربي المتعدد في خصوصياته الجهوية والتاريخية، ومن تهديد للاستقرار الاجتماعي والسياسي، الذي يمكن أن يؤدي بالجميع إلى المجهول. خاصة وإننا نعيش زمن العولمة، وثورة في وسائل التواصل الاجتماعي التي تعمل على فضح الفساد المستشري في بنية النظام السياسي المغربي، ويبرز كل ممارساته التي تعود بنا إلى العصور البائدة ،كما ترفع من منسوب الوعي لدى الشباب خاصة ببلاد الريف، وما تتصف به من ذاكرة جماعية متوهجة تزيدها حضورا مثل هذه الممارسات، وهو ما يجعل من بلاد الريف حاليا، وعلى خلاف مرحلة الخمسينات، منطقة عالية الحساسية تنذر بتطورات مفصلية في تاريخها ستلزم على جميع الأطراف وخاصة المتحكمين في مراكز القرار الاختيار بين بناء الدولة الديموقراطية المتعددة الضامنة للحقوق والحريات وحق تقرير مصير الجهات التاريخية في إطار دولة الاوطونوميات الجهوية المتضامنة وهو ما يدخل في باب الصواب أو بين التصعيد الذي تنتهجه اللوبيات الخزنية الاصولية، وذلك بكل ما يمكن أن تؤدي إليه هذه المنهجية من تجزئة وتفتيت لوحدة الوطن ونسيجه الاجتماعي.

على ضوء هذه التراجعات والتهديدات التي تحدق بالوطن دولة ومجتمعا، ألا يحق لنا أن نتساءل عن ضرورة تدخل الملك بصفته رئيسا للدولة من أجل وضع حد لما يتهددنا جميعا، وذلك من خلال طرح خارطة طريق، يكون مدخلها إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، و تقطع بالمقابل مع منطق التوافقات السابقة، وكل ما شاب الممارسة السياسية لدولة ما بعد الاستقلال من فساد و تسلط مخزني، والتأسيس بدل ذلك لتعاقدات اجتماعية وسياسية جديدة قوامها بناء الدولة الديموقراطية المتعددة الضامنة للحقوق والحريات.؟