عبد المجيد طعام: يا لها من جمعة!!!

عبد المجيد طعام: يا لها من جمعة!!! عبد المجيد طعام

قصة قصيرة..

مر على موعد الصلاة أكثر من عشر دقائق كانت بطيئة ثقيلة محملة بالقلق والمخاوف وكيف لا ؟ واليوم هو أفضل أيام الله ففيه خلق آدم وفيه قبض وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، وفيه النفخة، وفيه الصعقة ... كانت رقاب الحاضرين معلقة نحو الساعة الكبيرة الموضوعة أعلى المحراب وكانت حركات عقاربها تمارس عليهم عنفا نفسيا وتحفز فيهم رغبة ممارسة حقهم في اللغو لكن نحنحة المؤذن أمام الميكرو أشعرتهم أن معناتهم على وشك الانتهاء فتريثوا ومالوا بآذانهم نحو مصدر الصوت :" أيها المؤمنون الإمام يتأسف عن تعذر حضوره اليوم ... الإمام مريض ويقول لكم اختاروا من بينكم أعلمكم و أفقهكم بدينكم ليخطب فيكم ويصلي بكم ... اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد".

ضج المسجد وارتفع صوت النساء المتواريات خلف الحجاب الإسمنتي السميك وأسمعن الرجال احتجاجهن ورفضهن الخروج من المسجد بدون أجر يوم الجمعة ... تدخل المؤذن  ليهدئ الرجال و النساء و الأطفال ردد حديث " ومن لغا فلا جمعة له" عدة مرات لكن الجميع كانوا يطالبون بأجورهم كاملة حتى أولئك الذين كانوا يحاصرون مدخل ومحيط المسجد بعاهاتهم الجسدية والعقلية وعرباتهم المجرورة بالحمير أو بمحركات صينية الصنع.

بعد فشل المؤذن في إسماع صوته قام رجل من بين الحضور وقال بصوت حاسم:" أيها المصلون أجوركم لم تضع بعد لأن الملائكة لم تغادر بعد المسجد ولكن أمامنا وقتا قصيرا علينا أن نجد حلا لهذه المصيبة التي ألمت بنا لعلها ابتلاء من الله .. علينا أن نختار أخيرنا علما وفقها ليخطب فينا ويصلي بنا كما أوصى بذلك إمامنا الفاضل ...الله يشافيه  ويعافيه."  بمجرد ما انهى الرجل كلامه دارت كل العيون نحو "السي المنور".

السي لمنور استاذ حديث العهد بالتقاعد تعود أن يجلس في الصف الأخير راكنا ظهره إلى الحائط ليلتمس من زليجه المزخرف برودة  في فصل صيف حارق.. أحس بالحرج ولكنه لم يستطع التخلص من إلحاح الحاضرين وأدرك أن سعادتهم الروحية لن تكتمل اليوم إلا إذا خطب فيهم وصلى بهم ولم يكن أمامه إلا أن يرضخ لمطلبهم بعد أن رفعوا أيديهم نحو السماء يلتمسون له الشفاء من كل علله..

تقدم السي المنور نحو الصف الأول إلى أن شد بيديه على المنبر وصعد درجه بهدوء امتزج فيه الخوف من الوقوع بنوع من الخشوع الصوفي ... لم يلتفت إلى الصولجان بل اقترب من الميكرو ونحنح نحنحات خفيفة ... كانت كل الرقاب قد فارقت عقارب الساعة وشخصت كل الأبصار تنتظر ماذا سيقول لهم هذا الخطيب الغريب الذي لا يضع عمامة ولا يلبس جلبابا بل يرتدي سروال جينز..

اقترب الخطيب الغريب أكثر من الميكرو وسط ترقب قلق فقال  :" السلام عليكم أيها المؤمنون .. أولا أبشركم بأن أجوركم مضمونة تضمنها كل المواثيق الكونية والربانية كما يضمنها إيمانكم وحرصكم على أداء صلاة خالصة للتقرب من الله " ثم أردف قائلا :" أيها المؤمنون الخالصون اليوم لغوكم مقبول لا ينقص من جمعتكم شيئا لأنكم رفعتم أصواتكم مطالبين بحقكم ... طوبى لإيمانكم لو طعمتموه بالعقل سترقى درجاتكم عند الله لأن الإيمان يدرك بالقلب والعقل معا والعبادة تمارس بهما معا فلا تظنوا بعد اليوم أن الملائكة ستتخلى عنكم ولا ترفع أسماءكم إلى الله ... اهتموا بحياتكم وخذوا نصيبكم من متعها لأن الله صنع الحياة جميلة وثمينة واهتموا بالعلم و العمل وتربية أبنائكم على حب الحياة و الآن أترك لكم فسحة  لتطلبوا من الله أن يساعدكم على التفاني في مزاولة أعمالكم اليومية وتربية أبنائكم...".

جلس السي لمنور ليفصل بين الخطبتين ثم وقف وهو يستند هذه المرة على الصولجان وقال لهم : "السلام عليكم... أيها المؤمنون الصادقون لا تخافوا وإنما اقتنعوا وافهموا دينكم بعقولكم ... في هذا الكون يوجد نوران ..نور الله الذي يصفي قلوبنا من الشوائب ويقودنا نحو حب الآخر مهما كانت عقيدته ونور العقل ... هذا النور أودعه الله فينا علينا فقط أن نوقظه لينير حياتنا ويرقى بنا إلى صف الإنسانية بقيمها الكونية السامية ولن يوقظ نور العقل إلا بالعلم والمعرفة ... أقول قولي هذا وأبشركم بتمام أجوركم وأقم  الصلاة".

نزل السي لمنور من على المنبر وقف أمام المحراب ينتظر إقامة الصلاة لكن المؤذن و المسمع غادرا المسجد مهرولين و تبعهما نفر من المصلين الذين كانوا يستوطنون الصف الأول.