شامة درشول: ذهب أبيض...

شامة درشول: ذهب أبيض...

قال لي والحزن يَعلُو وجهه: "لن أتزوج امرأة تريد استغلالي، ترى فيَّ مجرد حامل لذهب أبيض"، تأملته طويلاً أحاول أن أفهم عم يتحدث، بلع ريقه، ونطق بكلمتين: "حيواني المنوي".
كان صديقي هذا ضابطاً في الجيش، ميسور الحال، مقبلاً على عقده الرابع ولم يتزوج بعد. جلست بجواره صديقة لم تكن تتردد في إخباره عن إعجابها به، كان يتفاداها إلى أن أتى اليوم الذي نطق فيه بما يعتمل في صدره.
اعتقدت أنها حالة خاصة بصديقي فقط، وأن هاجسه هذا مجرد مبرر للهروب مما يسمى في المغرب بـ"الطاعة". ردد أبي كثيراً مثلاً مغربياً يقول "من هرب للزواج هرب للطاعة". لكن بيت الطاعة هذا بات يهرب منه الكثير من رجال المغرب، كل وحجته، القلة فقط من يجرؤ ويقولها علناً: "لا نريد استغلال حيواننا المنوي ورمينا بعدها".
يحكي لي صديق مغربي عاش تجربتي الزواج والطلاق، أنه اتفق وزوجته على الطلاق، كانا يعيشان معاً في فرنسا، هي طبيبة، وهو مهندس، لكنها اختلفا كثيراً حتى بات الطلاق أمراً واقعاً لام مفر منه، يقول لي: "كانت تتناول حبوب منع الحمل، وليلة عودتنا إلى المغرب لبدء إجراءات الطلاق أخبرتني أنها تريد أن نفترق حبيبين كما التقينا، عاشرتها معاشرة الأزواج، ولم أكن أعرف أنها أوقفت تناول حبوب منع الحمل، حققت رغبتها في الإنجاب، حصلت على الطلاق، حملت الطفل إلى فرنسا، ومنعتني من رؤيته. حين سألتها لم فعلت هذا قالت لي: "لقد ربحت الولد، ولا يهمني الزواج ثانية، ولن احتاج رجلاً ليصرف عليَّ، ولن اجعل رجلاً ينقص مني لأني مطلقة، المهم أن أصبح أماً وسأتكفل بمصاريفه ومصاريفي".
لعشر سنوات تكررت معي مثل هذه القصص، لم أسمعها من رجال فقط، بل سمعتها من نساء أيضاً. النساء اللواتي كن يرتعدن خوفاً من غول اسمه الطلاق، بتن اليوم أكثر جرأة، أو لنقل أكثر براغماتية، إذ حكت لي نساء كثيرات أنهن تزوجن من أجل الإنجاب فقط، لم ينتظرن لا الحب، ولا المودة، ولا التفاهم ليقتنعن بشريك الحياة، بل حتى لم ينتظرن أي شيء مادي منه، تقول لي إحداهن: "أنا مستقلة مادياً، وأستطيع إعالة نفسي، والرجل في نظري لم يعد مصرفاً مالياً، هو الآن يمتلك ما يهمني أكثر من ماله... حيوانه المنوي".
هذه التحول الاجتماعي في نظرة المرأة المغربية إلى الرجل، بات يلقى دعماً من العائلة. العائلة التي كانت بالأمس تضغط على المرأة حتى لا تعود إلى بيت والديها مطلقة بأطفال أو بدون أطفال، فلا تجد من يتزوجها، أو يعيل أطفالها فغالبية النساء كن غير عاملات، هي نفسها اليوم من تنظر بعين الرضا لهذا النوع من التفكير في علاقة المرأة بالرجل.
تحكي لي إحدى الأمهات وهي في عقدها السادس قائلة: "ابنتي طبيبة تغذية، هي مستقلة مادياً ولا تحتاج رجلاً يعولها ويعول أطفالها منه، بل إنها اليوم مثار مطمع الكثير من أشباه الرجال الذين يريدون مالها، لذلك شجعتها على أن تجد أي ذكر تقترن به تنجب منه وبعدها تطلقه". كانت هذه الأم تتحدث أمام ابنتها التي علقت ضاحكة: "والدتي تنظر إلى على أني أنثى في حاجة إلى ذكر من أجل الإنجاب فقط، وبعدها لن أحتاج هذا الذكر، فقد أدى مهمته ويمكن أن يرحل بعيداً".
حملت معي كل هذه القصص ذات سنة إلى الأردن، كنت مدعوة إلى مؤتمر عن "العالم العربي والتغيير الاجتماعي بعد الربيع العربي"، طرح أحد المحاضرين سؤالاً على المشاركين وكانوا رجالاً ونساء من جنسيات عربية مختلفة: "هل تؤيدون الإنجاب خارج الزواج؟".
من بين ستين مشاركاً خمس فقط أجابوا بنعم، كانوا نساء، ثلاث منهن من المغرب، واحدة من تونس، وأخرى من سوريا تقيم في تركيا وأنجبت خارج الزواج.
أتى دوري وتحدثت عن "الذهب الأبيض"، عن "بنوك الحيوانات المنوية" في دول العالم المصنفة متقدمة، عن "بنوك تجميد المبايض"، والحلول العلمية التي تبحث عنها هذه الدول من أجل الحفاظ على النسل خارج ضوابط الزواج والتقاليد والأعراف، وطرحت سؤالاً: "لماذا يهرب المواطن العربي من حلول علمية تعفيه من اللف والدوران ويفضل إضفاء الشرعية على علاقاته الاجتماعية حتى وإن كان يعلم أن أهدافه قد لا تتفق مع ضوابط الشرع؟".
الجواب كان هو أن العرف لا يزال أقوى من الدين، المرأة التي تتزوج من أجل الإنجاب فقط قد تكون تسقط أحد ضوابط الزواج والذي يعرف دينياً بأنه "ميثاق غليظ"، يجب أن يتم بنية "الدوام"، لكن العرف يفرض على المرأة في مجتمعنا أن تضفي طابع الشرعية على علاقتها بالرجل حتى وهي تسعى فقط إلى الحصول على "حيوانه المنوي".
"من ينصف الرجل إذن؟"، أسأل الحضور، تتعالى الضحكات، ضحكات متوترة من رجال يعرفون أن ذكورتهم ترفض أن تذعن لهذا الواقع الذي يهددهم، وتحفظ من نساء يخشين "كشف مخططاتهن"... يجيبني أحد الشباب وكان مصرياً: "نقاطع الزواج"، ويرد آخر وكان عراقياً: "بل نطبق سياسة النفط مقابل الغذاء... نقدم الحيوان المنوي مقابل المال".
قد يبدو الأمر مثيراً للضحك، أو ليس مقلقاً بعد، أو أن الرجل في كل الحالات ليس هو المسؤول الأول عن تربية الأطفال، وأنه سواء كان هو المعيل الأول، أو "المهمل الأول"، فالمرأة في مجتمعنا هي من تربي وتعيل وأحياناً تعيل الرجل نفسه، لكن ألا نظلم أطفالنا حين نأتي بهم إلى هذا العالم ويتربون وسط الأمهات فقط ويحرمون من الدور الطبيعي للرجل الأب؟
يقلق هذا التساؤل ذهني وأنا أطلع على مواقع التبرع بالحيوانات المنوية في كندا، وأقرأ ما كتبه أحد المتبرعين: "لا أمانع في التواصل مع طفلي البيولوجي والمساهمة في تربيته، سيسعدني أن أقوم بدور الأب البيولوجي".