عبد اللطيف برادة: قصص العقاد مع النساء والغرام (الحلقة الاولى)

عبد اللطيف برادة: قصص العقاد مع النساء والغرام (الحلقة الاولى) عبد اللطيف برادة

كان عباس محمود العقاد يمثل من دون شك بفكره ونقده ومواقفه قارة ثقافية شاملة، وكيف لا وهو الذي صال وجال في كل دروب المعرفة فأثار ما أثاره من المعارك مالم يثره غيره من الأدباء. إلا انه كان للعقاد جولات أخرى خاضها إلى جانب عوالمه الأدبية وهي زوايا معتمة من حياته العاطفية تم إهمالها من طرف النقاد لأسباب قد أجهلها أنا بدوري. ولهذا وجدت نفسي هنا ملزما من إماطة اللثام عن هذا الجانب حتى تكتمل الصورة لدى القارئ وخاصة فيما يتعلق  بصولاته في عوالم المرأة والحب، وكيف لا وهو الجانب الذي سيكون  له أعمق التأثير في شخصيته وفي شعره. وهو الأمر الذي حفزني حتى أتطرق إلى هذا الجانب الإنساني الذي  من دون شك كان له دورا فعال في بلورة ملكة الشعر لدى شاعر مرهف كمثل العقاد.

 حيث أرغب هنا في أن أغير الصورة القاتمة التي رسمها عنه بعض من النقاد الذين قدروا سوء التقدير هذا المحور في حياة الأديب إلى حد اعتبار العقاد عدوا للمرأة، استنادا إإلى ما تميزت به معاركه الصحفية من سخونة شديدة ونقد لاذع لبعض النساء، فاتخذوا أي النقاد بذلك حجة ضده متجاهلين ما كان للعقاد من مواقف جد مساندة للمرأة، بل إنه كان في الواقع من أشهر الكتاب الذين دافعوا عن المرأة في كتاباتهم وإن كان من زاوية محافظة، كما أنه قال في النساء شعرا أعذب يستحق الإشادة به.

 

نعم، لقد قال العقاد شعرا في المرأة وحتى إن لم يأت ذلك مسرفاً في العاطفية كشعر الرومانسيين، ولا موغلا في العناية بالغزل كمعاصريه، ولا هو بشعر الحواس بقدر إذ كان شعره شعر المشاعر والعواطف العميقة الذي غالبا ما كان يغلب عليه طابع اليقظة. الشيء الذي لم يمنعه من التغزل بأبيات عفيفة في جمال المرأة والحب شانه في ذلك شأن كل مبدع عظيم.

هكذا وإن كان العقاد قد قضي معظم حياته وحيدا، لم يتزوج وبالتالي لم تكن له عائلة خاصة وأولاد. فهو لم يعش كما يتصور الناس كالراهب مكرسا حياته كليا في محراب الأدب فقط بعيدا عن المغامرات العاطفية التي غالبا ما تحفل بها حياة مشاهير الأدباء.

  بلى، لقد تذوق الأديب طعم الحب أكثر من مرة. فكانت له في الحب تجارب كبيرة أتذكر منها حسب ما اطلعت عليه ثلاث تجارب على الأقل، فكانت التجربة الأولى هي حبه للأديبة مي زيادة، وكان حبا هادئا ليس فيه عنف ولا توتر، ويمكن القول إنه كان حبا روحيا لم يتجاوز حدود التعبير عن نفسه بلطف ونعومة في بعض الرسائل والقصائد الوجدانية.

الحب الثاني في حياة العقاد كما يروي الناقد رجاء النقاش في كتابه "أجمل قصص الحب من الشرق والغرب" كان حبا عنيفا، ولكنه انتهى نهاية حزينة جعل العقاد يقول عن نفسه "إن الناس الذين يشيرون لي بأصابعهم لا يعلمون أنني من أشقى الناس وأتعسهم".

كتب العقاد قصة هذا الحب في روايته الوحيدة "سارة"، وجاءت النهاية الحزينة لأن العقاد امتلأ بالشك في حبيبته وظن أنها تخدعه وتخونه مع غيره، ولم يحتمل احتمال علاقة تعاني من الشك، فانقطعت الصلة بين الحبيبين.. كانت الحبيبة تعيش مع عائلتها في مصر، وكان اسمها "إليس".

بعد أن انتهت قصة "إليس"، وفي عام 1940 تعرف العقاد على فتاة سمراء جميلة تدعى "هنومة خليل"، فوقع في حبّها، وكان هو في الخمسين من عمره وهي في العشرين، وقد أدرك العقاد من البداية أن هذا الفارق الكبير في العمر لا يتيح لهذا الحب أن يستمر أو يستقر، ومع ذلك فقد عاش في ظل هذا الحب سنوات عديدة ذاق فيها السعادة.

لكن ما كان يخشاه العقاد فقد حدث، حين تعرفت هذه الحبيبة إلى النجم السينمائي أحمد سالم، فاختطفها فورا للعمل في السينما وتزوجها بعد ذلك، وسرعان ما أصبحت نجمة مشهورة هي الفنانة مديحة يسري.

كان العقاد يعترض على عمل مديحة، حيث كان يرى أن ذلك يضع نهاية للحب الذي ملأ قلبه، لكنها لم تتراجع عن عملها بالسينما، وسرعان ما أصبح لها جمهور كبير من المحبين والمعجبين، وأدرك العقاد أنه لن يستطيع تحمل هذه العلاقة فقرر أن يقطعها نهائيا، لأنه لو استمر في هذا الحب فلن يكون أكثر من واحد بين عشرات من الذين يلتفون حول النجمة ويقدمون لها الإعجاب والورود.

فدخل العقاد في معركة هائلة مع نفسه وعواطفه، فلا هو قادر على أن ينسى حبيبته، ولا قادر على أن يتقبل وضعها الجديد ويرضى أن يكون واحدا من المعجبين، فاهتدى إلى فكرة عجيبة يرويها تلميذه وصديقه الفنان صلاح طاهر فيقول:

"ذات مرة كنت مع الأستاذ العقاد في شقته، ودخلت غرفة لأتحدث في الهاتف، فناداني العقاد بلهفة: يا صلاح.. تعالَ لا تتصل الآن، ورجعت إليه فوجدت الدموع في عينيه، فأخبرني أنه ينتظر على أمل أن تتصل به محبوبته الممثلة التي قاطعها منذ أربعة شهور.

ووجدت مدى تأثره بفراقها رغم قدرته الخارقة على التحمل والكتمان وتناقشنا في كيفية نسيانها، واقترح عليّ أن أرسم لوحة فنية عبارة عن كعكة شهية جدا وقد تهافت عليها الذباب، وبالفعل أنجزت اللوحة  ووضعها العقاد على الحائط مقابل سرير نومه، وكلما استيقظ رأى اللوحة التي ساعدته على النسيان، وأذكر أنه في تلك الفترة كتب قصيدة "يوم الظنون" والتي يقول فيها:

وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي/ ما لان في صعب الحوادث مقودي

وهكذا استعان العقاد باللوحة الفنية حتى ينسى أكبر قصة حب عاصفة في حياته.