أحمد بومعيز: إلياس العماري.. هل أفل نجم "العراب" المغامر؟

أحمد بومعيز: إلياس العماري.. هل أفل نجم "العراب" المغامر؟ أحمد بومعيز

قد يكون إلياس العماري في المغرب من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في السنوات الأخيرة، فقد حقق الرجل، منذ ظهوره في المشهد السياسي العلني بداية سنوات 2000، - بعد مسار سري أو مجهول في الثمانينيات والتسعينيات-، حقق مسارا تصاعديا ملفتا.. فمن مناضل مغمور في صفوف اليسار المغربي الجديد -حسب بعض المعطيات- إلى أمين عام لحزب جديد (الأصالة والمعاصرة)، الذي تمت هندسته على مقاسه آنذاك.. وهو الشخص المدجج بالعلاقات والقوي بشبكاتها، مع أصحاب النفوذ والقرار، والذي طمع بعد وعود وإغراءات وحملات في اكتساح الانتخابات التشريعية الأخيرة، وقيادة حكومة ما بعد 7 أكتوبر2016. لكنه فشل في ذلك، وحقق المرتبة الثانية فقط، ليركن حزبه في مرأب المعارضة الغير مفعلة، منتظرا فرصة جديدة أو معجزة.. لكن الأحداث توالت، والأحلام بدأت تتبخر تباعا، والمعجزة لم تتحقق. لينطلق العد العكسي، وبسرعة أكبر، من سرعة الوصول إلى منتصف القمة، ليجد نفسه ملزما ومرغما على التخلي عن قيادة "البام" نهاية شهر ماي 2018 .

منذ بداية المشوار السياسي لإلياس العماري، كان يبدو أن طموحات الرجل لا حدود لها، وأنه قادر على التحالف مع كل من يسهل مساره، ويحارب سرا وعلانية كل من يقف أمام تلك الطموحات، وأنه قادر على المغامرة بكل شيء وبكل العلاقات وبكل الأرصدة المادية والرمزية من أجل الوصول إلى منصب القرار وتحقيق الأحلام التي رسمها، والتي كان يراها رفاقه وأقراه مستحيلة .

لكن كل ذلك الطموح لم يكن كافيا للحفاظ على مسار الصعود نحو القمة، وعلى ألأقل البقاء في الموقع أو المحطات التي وصل إليها، بما فيها رئاسة الحزب الذي راهن عليه واستثمر ووظف فيه كل رصيد وشبكة العلاقات التي تحكم فيها، معتقدا أنها الوسيلة الكفيلة بتحقيق المستحيل. لكن ماذا حصل من تحول في المشهد وفي المعطيات حتى تتبعثر أحلام العماري في ظرف في سنة واحدة؟

قد تظل الحقيقة ضائعة لمدة، أو قد لا تظهر، بحكم أن جل مسار العماري يلفه الغموض، فبعلاقات متعددة ومتناقضة ومشبوهة في بعض الأحيان يصير تتبع أثره متاهة تستعصي سواء تعلق الأمر بماضيه، أو بأفق طموحاته. لكن هذا لا يمنع من تبني فرضيات لتسليط الضوء قليلا على مرحلة التراجع الذي عرفه ذلك المسار من أكتوبر 2016 إلى صيف 2018 أي لمدة سنة ونصف .

من الممكن والموضوعي جدا أن تكون نتائج الانتخابات التشريعية أكتوبر 2017 نقطة التحول في مسار العماري، فهو دخل الاستحقاقات كحزب قوي يتمتع بدعم العديد من الأعيان والأجهزة، والرجل نفسه، وبكريزمات علاقاته، يترأس جهة الشمال بكل تناقضاتها ومواردها وحاجياتها ومطالبها، ويروج إيديولوجيا أن حزبه خلق لمحاربة المتأسلمين والإسلام السياسي، وإنقاذ البلاد من سوء تسييرهم للشأن العام، وأنه سيسهر على إرساء التنمية والحداثة بكل المناطق وفي كل القطاعات، بدءا من الشمال إلى أقصى الجنوب... لكن نتائج صناديق الاقتراع لم تكن مطاوعة لرغبات إلياس العماري وحزبه، فقد تمكن حزب العدالة التنمية من الحصول على المرتبة الأولى، وحصل حزب العماري على الثانية بفارق 23 مقعدا، والدستور لا يقبل التأويل في إسناد رئاسة الحكومة، فالمنصب للعدالة والتنمية بضرورة وصراحة النص الدستوري، فلم يعد لإلياس العماري الحق في منصب رئاسة الحكومة، وبات مصيره السياسي مرهونا بثلاث اختيارات: إما لانتظار، أو النضال في صفوف المعارضة، أو المناورة. فاختار المناورة.. أولا لأن الانتظار لا يدخل في قواعد لعبته وقاموسه السياسي، ثم أن المعارضة صارت مهمة وتمرينا لم يعد يتقنه أو لم يعد يرغب فيه، ولا تسمح به "أجندته" الجديدة، وخصوصا بفريق برلماني هجين وغير متجانس.. فالعديد منهم جاءوا إلى الحزب من أجل الاقتراب من مراكز القرار والفوز بموقع يسمح بامتيازات الزبونية والريع التي قد يوفرها "عراب" المرحلة إلياس العماري.

وهكذا أربكت نتائج الانتخابات التشريعية كل حسابات العماري، وجعلت رفاقه في الحزب وجل المنخرطين يقيمون الوضع وفق واقع الحال، ليتنبهوا فجأة أن العماري لا يمتلك القوة الخارقة، ولا يملك الخاتم السحري كما كان يوهمهم، وأن الفشل ممكن في حزب حتى ولو ترأسه العماري. وبعدها، توالت الأحداث في الريف معقله الرئيس وقلعته المزعومة، وتنفجر الحسيمة مدينته الأصلية احتجاجات اجتماعية أخذت من الزمن السياسي المغربي مدة وجهدا وموقعا وموقفا، والجروح لم تندمل بعد، ولم يجد العماري، حتى بصفته رئيسا على الجهة، حلا للاحتجاجات وللاحتقان، بل وجوده وتدخله وظهوره كان يؤجج الوضع، وكل مبادراته فشلت في المساعدة على حلحلة أزمة التنمية والتواصل مع المواطنين الغاضبين، وهو نفسه الذي كان يوهم أصحاب القرار ورفاقه بأنه قادر وحده على فك لغز الشمال والريف، وفك ألغاز كل ما يصعب في المغرب وخارجه. فبدأ الشك والتشكيك في قدرات العماري، وحول إمكانية استمراره قائدا لحزب الجرار الذي لم يستطع حرث الريف، ولم يحصد أغلبية البرلمان.

وبما أن العماري مناور ومغامر بطبعه، فقد حاول المزايدة باستقالته من الحزب، انفعالا أو تفاعلا مفتعلا مع انتقاد الملك للنخب السياسية في  خطاب صيف 2018 في سياق أحداث الريف، وهي الاستقالة التي لم يحسب تداعياتها كثيرا، إذ تحولت إلى فرصة وإشارة التقطها رفاقه، وربما تزامنا مع إشارات قوية من جهات أخرى. فتم الإعلان الرسمي والنهائي عن أن جدول أعمال حزب الجرار صار بنقطة واحدة، وهي رحيل العماري عن قيادة الحزب، وتفعيل الاستقالة التي قدمها رغم كل محاولاته للالتفاف عليها. وذلك ما حدث فالفعل نهاية شهر مايو 2018 خلال أشغال المجلس الوطني الاستثنائي، ليتقلد زمام رئاسة الحزب عبد الحكيم بشماش .

أعترف أن هذا العرض الكرونولوجي لسنة ونصف من مسار شخص كإلياس العماري لا يمكن أن يكون بهذه البساطة النظرية وبهذه السلاسة، وبهذا الوضوح، فالأمر أكثر تعقيدا مما أطرح، فالشخص المعني ليس بالمطاوع ولا بالوديع، فهو مشاكس ومغامر بطبعه، ويتقن اللعب في الكواليس، وله من العلاقات -المتناقضة والمركبة والمتشابكة- ما يكفي للمناورة وإرباك الخصوم. فبتسارع الأحداث التي تمت الإشارة إليها بعد نتائج انتخابات أكتوبر2016، وتولي حزب العدالة والتنمية رئاسة النسخة الثانية من الحكومة، وبداية سيناريو إخراج العماري من مدار القرار والسلطة، فرضيات أخرى تطرح نفسها في الصراع الخفي والمعلن للبقاء في الحلبة. فبالطبع لن يقبل العماري أن يتم تعبيد الطريق بسهولة أمام صديقه اللدود "عزيز أخنوش" الزعيم الجديد لحزب الأحرار، وصاحب العلاقات الجيدة والمتميزة مع مراكز القرار، والملياردير الذي يتجاوزه بثقله المالي وبمشاريعه وبعلاقاته الجديدة وبطموحاته المنافسة.. فللغيرة موقع في قلب العماري الذي كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه... وهكذا، قد يكون ذلك مبررا للصراع الخفي الذي لم يعد كذلك، وللحرب التي أعلنها العماري على أخنوش، من انتقاد علني على شاكلة -مول البومبة لصانص والحزب- أو بتبني مواقف المقاطعين لمنتوجات  ثلاث شركات، منها شركة أخنوش لتوزيع المحروقات، وصولا إلى رفع شعارات "أخنوش ارحل" أمام الملك بطنجة  مؤخرا، والتي نسبت فبركتها للعماري ورجاله، حتى أن بعض المحللين يجعلون من التسريع بعقد المجلس الوطني الاستثنائي للحزب نهاية شهر ماي الماضي والبث في قرار استقالته.. وتنصيب بنشماش كان ربما بعد  ثبوت تورط العماري في التعبئة للمقاطعة الشعبية لمنتجات ثلاث شركات منها شركة أخنوش ومريم بنصالح.. إذ اختار العماري أن يلعب بوجه شبه مكشوف، وأن يتخذ موقفا من المقاطعة التي بدأت تتأجج وتأخذ أبعادا أخرى، فهو بذلك، وبدعمه للمقاطعة -حتى وإن كان لا يهتم كثيرا بأمر المواطنين ولا تعنيه قدرتهم الشرائية- فهو يهتم كثيرا وجدا بإرباك خصومه دفعة واحدة وبحجر واحد، حزب الأحرار وزعيمة الجديد ومنافسه في الحظوة "عزيز أخنوش" وأعداء الأمس القريب  "العدالة والتنمية"، بحكم أنهم جميعا في قفص واحد والمسؤولية مباشرة ومشتركة ...

... فهل وصل طموح إلياس العماري إلى الطريق المسدود، ونهاية المشوار السياسي؟ وهل سينسحب مرحليا ويرحل في جولات أخرى خارج الوطن لينسج علاقات جديدة تمنحه كفايات محينة تمكنه من العودة للصراع بـ "لووك" جديد و"بروفايل" جديد وبتكتيكات جديدة؟ أم أنه سيحارب من الداخل باعتماد تقنيات السرية التي تعلمها في الثمانيات حين كان مشاغبا مغمورا ضمن تيارات اليسار الجديد؟ أم أنه سيعتزل السياسة ويتفرغ لمتعة التقاعد النسبي المريح؟