وكثيرا ما يتطور الموقف، على هذا المستوى، الى تجاهل الأبعاد الحقيقية من قضايا الخلاف ليتم التركيز على ما ليس الا التعبير عن ذلك الاختلاف، مع ان التوجه الى صلب موضوع الاختلاف أجدى في تبين الخلفيات والدوافع التي كانت وراء موقف في مقابل موقف آخر من القضية الواحدة وفي ظرورف موضوعية وذاتية محددة مرتبطة بالسياق العام والخاص لاتخاذ القرار. ومن شأن هذا ان يعمق النقاش السياسي من خلال التركيز على طبيعة الحجج التي يأتي بها كل فريق عندما رجح اتخاذ موقف دون آخر. وهو ما لا يسمح به الجدل العقيم حول القرار المستقل منظورا اليه بشكل مجرد. فماذا يعني القرار المستقل بالنسبة لأي حزب سياسي على سبيل المثال خاصة ان هناك جدلا حول هذا الموضوع بخصوص نتائج الاستحقاق الانتخابي الأخير على مستوى المشاركة في الحكومة او عدم المشاركة؟ يبدو لي ان الجواب يقتضي اخذ عوامل هامة بعين الاعتبار منها: اولا، القرار المستقل ليس قرارا معلقا في الهواء بعيدا عن الظروف العامة التي يتم اتخاذه فيها. بل هو وليد تقييم ما لتلك الظروف من زاوية ما تقتضيه مصالح الحزب السياسي المعني والتزاماته تجاه مناضليه ورؤيته الى دوره الفعلي او الممكن في الحياة السياسية لما بعد الاستحقاق الانتخابي سواء كان لجهة التموقع في ساحات المعارضة او المساهمة في التركيبة الحكومية. ثانيا، ان القرار المستقل هو اولا وأساسا القرار الذي تتخذه الهيئات المؤهلة تنظيميا لذلك وهي القيادات المنتخبة داخل الحزب المعين. وليس قرارا يتم فرضه عليه او إملاؤه عليه سواء كان بهذا الاتجاه او ذاك او من هذه الجهة او تلك. ثالثا، ولأن كل قرار مرتبط بحيثيات سياسية يمليها الواقع الفعلي على مختلف القوى فإن من محددات القرار المستقل هو اخذ معطيات الواقع بعين الاعتبار بكل ما يعنيه ذلك من موازين المصلحة السياسية التي لا يمكن تصورها خارج تلك المعطيات بعناصرها الإيجابية واكراهاتها حيث يأتي القرار المستقل مرجحا لمجموعة من العناصر على أخرى بوعي تام لدى صانع القرار السياسي. رابعا، ان القرار المستقل ليس يعني بالضرورة القرار الصائب من حيث مضاعفاته ونتائجه المستقبلية وانما هو وليد تقدير صانع القرار لطبيعة الواقع وما يمكن ان يسفر عنه موقفه من نتائج ومضاعفات على وضع الحزب في المشهد السياسي القائم. ورغم ان استشراف المستقبل جزء هام من عملية اتخاذ القرار السياسي المستقل، فانه ليس ممكنا نفي ان العملية السياسية لا تنتهي باتخاذ موقف مستقل بعينه، بل هو بداية لمسار يتوقف النجاح فيه او الفشل على طبيعة تدبيره من قبل الحزب المعني مشاركة في الحكومة او معارضة لها. ويبدو لي انه كلما كانت هذه العوامل حاضرة عند صانع القرار وقت اتخاذ القرار يمكن القول انه قد اتخذ قرارا مستقلا بغض النظر عن كل احكام القيمة التي يتم التلويح بها هنا وهناك في مواجهة صاحب الموقف بدعوى كونه لا يعرف مصلحة التشكيلة السياسية التي ينتمي اليها او يقودها، في حين ان ذلك ليس الا محاولة من بين اخرى للتأثير في صنع قرار الهيئة المعنية بشكل واضح حتى في الوقت الذي ينبغي فيه الاعتراف ان عددا من تلك المحاولات تنطلق من مواقع ايجابية وعلى أساس من التعاطف معها لكن بطريقتها. انطلاقا من هذه المقدمات يمكن القول ان المشكلة الحقيقية ليست في اتخاذ الموقف، وانما في تعليله. وهذا هو موضوع كل نقد بناء. اما ما عداه فهو ليس في أحسن احواله غير الإفصاح عن بعض الهواجس التي مهما كانت صادقة واتخذت شكلا من اشكال التفكير بالجهر، فإنها لا ترقى الى مستوى الحجة في النقاش السياسي الذي يفرضه الموقف. اما من ينطلق في نقده للأحزاب ومواقفها وأدوارها من منطلقات مسبقة مهما كانت المواقف التي تعبر عنها في هذه النازلة او تلك، فإن عدم الالتفات الى ما يعلنه أجدى للعمل السياسي من هدر الوقت في محاربة التمثلات الوهمية التي يتم التعبير عنها بمناسبة ودون مناسبة.