عبد السلام العزيز:حملة المقاطعة..رفض جشع الرأسمال الاحتكاري، ودعوة للتغيير

عبد السلام العزيز:حملة المقاطعة..رفض جشع الرأسمال الاحتكاري، ودعوة للتغيير عبد السلام العزيز

"إن سلطة المال تنهب البلاد في وقت السلام وتحبك المؤامرات في الأوقات العصيبة... إن سادت فسيحل عهد الفساد" (أبراهام لنكولن).

مضى أكثر من شهر على انطلاق حملة مقاطعة العلامات التجارية الثلاث، والتي تعرف تجاوبا غير مسبوق، حيث إن نسب المقاطعة تبقى مرتفعة بالنسبة لمثيلاتها التي استهدفت علامات تجارية على المستوى العالمي في السنوات الأخيرة ، ورغم ذلك ما زال المغاربة ينتظرون التفاعل الايجابي من طرف الشركات المستهدفة من جهة ومن طرف الحكومة من جهة أخرى ، لكن يتضح أن التسويف ومحاولات تبرير الأثمنة المرتفعة التي تعرفها السوق المغربية ومن بينها المنتوجات المستهدفة هو الجواب الوحيد للمسؤولين، وذلك على أمل إنهاك هذا الحراك، لكن يتضح أن هذه الإستراتيجية لن تنجح، وذلك لمستوى الوعي والتفاعل الذكي والتلاحم الكبير الذي أظهره المقاطعون مع كل محاولات إجهاض هذه الحملة .

إن الحجة الأساسية التي استعملتها الحكومة وكذا بعض الشركات المستهدفة وبعض المنابر الصحفية هي أن هامش الربح يبقى ضعيفا في بلادنا بفعل كلفة الإنتاج ومستوى الضرائب المرتفعة (تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة ، و بيان شركة والماس، وبعض التحقيقات الصحفية ) وهو أمر يجانب الحقيقة، بالنظر لمكونات كلفة الإنتاج في هذه القطاعات، ولكون مستوى الضرائب في بلادنا تبقى في نفس المستوى أو أقل بالمقارنة مع الدول التي تعرف أثمنة معتدلة ، رغم مستوى العيش المرتفع، وذلك بفضل دور الدولة ومؤسساتها في حماية المستهلك من شطط الشركات الكبرى، و خصوصا من الاتفاقات حول الأثمنة و توزيع السوق فيما بينها الشيء الذي تُحرمه كل التشريعات المتعلقة بالمنافسة وتتخذ ضده إجراءات زجرية وعقوبات قاسية، وكمثال على ذلك يمكن أن نذكر حكم مجلس المنافسة الفرنسي سنة 2005 على ثلاثة من الفاعلين في مجال الاتصال : ((Orange , SFR, Bouygues Telecom بأداء 534 مليون أورو لقيامه باتفاقات يمنعها القانون.

وسنحاول في هذا المقال إظهار أن مستوى الربحية rentabilité في بلادنا مرتفع بشكل كبير جدا وغير منطقي بالنسبة للقطاعات التي تعرف وضعا شبه احتكاري، و منها القطاعات التي تنتمي إليها العلامات المستهدفة، كما سنحاول من جهة أخرى رسم بعض معالم الإجراءات الضرورية للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين و حمايتهم من جشع الرأسمال الكبير.

I. القطاعات الشبه الاحتكارية في المغرب: أسعار ملتهبة و أرباح مهولة

اعتبارا للسياسات النيوليبرالية التي اتخذتها الدولة وحكوماتها المتعاقبة والتي تعمقت منذ 2011 تحت مبررات النهوض بالاستثمار الخاص، وخلق فرص الشغل، وتحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية، تم نهج سياسة الخوصصة و التحرير، خصوصا تحرير الأسعار، دون إيجاد آليات المراقبة و التأطير الضرورية حماية للمواطنين، مما أدى إلى هيمنة الرأسمال الاحتكاري والريعي على العديد من القطاعات الاقتصادية وفرض أثمنة مرتفعة سواء بالنسبة لتكلفة الإنتاج أو مقارنة مع نفس القطاعات في دول أخرى. وبالفعل فإن عملية رفع الدعم عن المحروقات وتحرير أثمنتها فضحت جشع الرأسمال الاحتكاري واستعماله لأساليب غير قانونية بل و غير أخلاقية لتحقيق التراكم الرأسمالي السريع والاغتناء الفاحش و السريع لأوليغارشية محلية وشركات أجنبية تتحكم في هذه القطاعات.

1. قطاع المحروقات :

لقد تمكنت الشركات العاملة في هذا القطاع من كسب حوالي17 مليار درهم منذ بداية التحرير سنة 2015 كفائض ربح sur profit. ولتبرير ذلك اعتبر البعض أن هذا الفائض هو استدراك للمعدلات الربحية الضعيفة قبل التحرير. لكن وبمقارنة الربحية التجارية rentabilité commerciale ) الربح الصافي/ رقم المعاملات ( بالنسبة لطوطال المغرب سنة 2015 أي قبل التحرير كانت أعلى من نظيرتها لبعض الشركات الغربية، فلقد كان معدل الربحية عند طوطال المغرب 4.5 في المائة مقابل 0.75 بالنسبة ل غالب GALP البرتغالية و3,08 في المائة بالنسبة لطوطال فرنسا. أما بعد التحرير فلقد أصبحت معدلات ربح شركات المحروقات المغربية خيالية. وهكذا حققت شركة طوطال المغرب معدل ربحية مالية ( الربح الصافي/ الرأسمال الخصوصي) تجاوزت 60% سنة 2016 و 50% سنة 2017 مقابل حوالي 10% بالنسبة لطوطال فرنسا وغالبGALP البرتغالية. إن هذه المعدلات لا يمكن تحقيقها إلا في العمليات المضارباتية أوفي محيط اقتصادي ريعي. وبالنسبة للمحللين الماليين فهم يعتبرون أن نسب 13 و14 أو 15 في المائة كمعدل ربحية هي نسب ممتازة جدا.

 

2. قطاع المياه المعبئة :

إن النتائج المالية لشركة والماس وعكس ما أريد ترويجه بكون معدل الربح ضعيف، و هو الشيء الذي تكذبه البيانات المالية للشركة، حيث وصلت أرباحها الصافية 195 مليون درهم سنة 2017 مقابل 65 مليون درهم سنة 2012، حيث تضاعفت ثلاث مرات في ظرف خمس سنوات، و انتقل معدل الربحية التجارية من 5 إلى %10 و معدل ربحية رأسمال الخاص من %5.5 إلى% 28. و مقارنة مع قطاع المياه عند شركة دانون جرفيDanone GERVAIS الفرنسية، والتي تعتبر الثالثة عالميا في مجال المياه المعبأة وتنتج علامات تجارية معروفة مثل VOLVIC و EVIAN فإن معدل ناتج الاستغلال ( ناتج الاستغلال/ رقم المعاملات) عند شركة والماس يساوي% 16 مقابل 11 في المائة عند قطاع مياه شركة دانون الفرنسية.

3- قطاعات أخرى :

ويمكن تعميم هذا الواقع على باقي القطاعات التي تعرف وضعا احتكاريا فمثلا بالنسبة لقطاع الاتصال فان مقارنة مستوى الربحية لاتصالات المغرب مع فاعلين مثل أورانج فرنسية ، تليفونيكا الاسبانية، تيليكوم الايطالية، تيليكوم المصرية وغيرها يظهر أنها تتجاوز بكثير هؤلاء الفاعلين حيث تصل إلى ما بين 4 و6 مرات ربحية هذه الشركات. أما في قطاع الخدمات المقدمة للجماعات الترابية فمعدل الربحية التجارية بالنسبة ل" ليدك "يصل إلى 1.73 مرة معدل ربحية شركة فيوليا الفرنسية.

و في القطاع المالي فإن معدل الأرباح الصافية بالنسبة لرقم المعاملات يصل إلى 24 في المائة عند التجاري وفابنك مقابل 17 في المائة ل BNP الفرنسية و 13 في المائة ل BANCO SANTANDER الاسباني . وبالنسبة لقطاع التأمين فإن هذا المعدل يصل الى 10 في المائة بالنسبة ل وفا للتأمين، و 6,11 في المائة لساهام المغربيتين مقابل 5،6 لMAPFRE الاسبانية و6 في المائة لأكسا الفرنسية.

يمكن أن نعدد الأمثلة لكن الخلاصة هي أن مستوى الربحية عند الشركات المغربية يبقى مرتفعا مقارنة مع مثيلاتها الغربية. إن فائض الربح الذي تستفيد منه هذه الشركات راجعا لطبيعة شبه الاحتكارية للسوق مع غياب آليات المراقبة وقرب العديد من الفاعلين في هذه القطاعات من السلطة السياسية إلى جانب هذا يمكن إضافة الاستغلال الكبير للشغيلة (....) فمثلا حصة الأجور من القيمة المضافة لا تتجاوز 14% في اتصالات المغرب مقابل 35 % بالنسبة لأورانج فرنسا.

كل هذا يبين أننا بصدد رأسمال ريعي غير قادر على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، لأن هدفه الأساسي هو الاغتناء السريع ولو على حساب القوت اليومي للمواطنين واستقرار الوطن.

2 ــ تعزيز القدر الشرائية للمواطنين: بعض مداخل الإصلاح

إن حملة المقاطعة تطرح وبقوة الإشكالية الاجتماعية في بلادنا، وفِي قلبها إشكالية القدرة الشرائية لعموم المغاربة، وعلاقتها بالتوزيع العادل للثروة. إن العقيدة الاجتماعية التي تم التسويق لها من طرف رئيس الحكومة السابقة، والتي مازالت تشتغل عليها هذه الحكومة متمثلة في أن الشرائح المتوسطة في بلادنا والشغيلة عموما هي شرائح ميسورة ومستفيدة، على اعتبا ر أن مستوى الأجور في بلادنا مرتفع مقارنة بكل دول المنطقة وبالتالي فعليها أداء فاتورة الأزمة، وأن كل المجهودات يجب أن تتجه نحو الطبقات الأكثر فقرا والتي ليس لها من يدافع عنها، وأن البلاد في حاجة للرأسمال الذي يجب إعطاؤه كل الامتيازات وتحريره من كل القيود حتى يتمكن من رفع تحديات الاستثمار و التشغيل والتنمية، بل ضرورة إدخال خدمات اجتماعية جديدة إلى دائرة الإنتاج السلعي الرأسمالي كالتعليم والصحة وغيرها. إن هذا الباراديغم الذي يستمد حجته النظرية من الإيدولوجية النيوليبرالية الأكثر توحشا جعل من الحكومة سادنا للرأسمال الكبير :

فتعميق ضرب القدرة الشرائية للشرائح المتوسطة من خلال تجميد الأجور، والرفع من مستوى الأسعار، وتحميل العائلات مصاريف جديدة في ميدان التعليم والصحة والخدمات العمومية عموما، أدى إلى تفقير شرائح واسعة من متوسطي الدخل دون أن يؤدي ذلك إلى الرفع من المستوى المعيشي للطبقات الأكثر فقرا، بل على العكس فقد ازداد وضعها تدهورا وهشاشة .

كما أن الرهان على الرأسمال الخاص من أجل تحقيق التنمية المنشودة، مع انسحاب الدولة من القيام بمهامها في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، أدى الى ما تعرفه بلادنا من تراجعات على كل المستويات .إنه النموذج الذي يقر الجميع بفشله والذي أدى إلى مراكمة ثروات هائلة لدى حفنة من المنتفعين مقابل توسيع دائرة الفقر والتهميش .

 

من هنا يجب فهم أن المقاطعة الحالية ليست فقط مقاطعة للاستفادة boycott instrumental تهدف إلى خفض أثمان العلامات المستهدفة بل هي بالإضافة إلى ذلكboycott expressif أي مقاطعة تعبيرية، عن رفض للسياسات التي أدت إلى واقع الغلاء المعمم، وضرب القدرة الشرائية لعموم المواطنين، والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة والتفقيرية.

إن هذه المقاطعة تؤكد على ضرورة العمل على إجراء الإصلاحات الضرورية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن حل معضلة الغلاء المتزايد في بلادنا وضرب القدرة الشرائية لعموم المغاربة لن يتأتى فقط بإجراءات تقنية أو معزولة كتنصيب مجلس المنافسة على أهميته بل يتطلب إصلاحات جذرية ومن مداخلها.

المدخل الأول : مدخل تشريعي ومؤسساتي

*إصلاح القوانين المتعلقة بالأثمان والمنافسة وذلك بإقرار سياسة تأطير أثمان للمواد الأساسية والخدمات، من خلال تحديد سقف أثمنة بعض الخدمات مثل التعليم الخصوصي، وخدمات الصحة وخصوصا المصحات الخاصة اللذان أصبحا يرهقان الأسر ويؤثران بشكل كبير على مستواهم المعيشي . كما يجب تحديد هامش ربح معقول ومراقَب لأثمنة المواد الأساسية مثل الدقيق بكل أصنافه والزيت والحليب والشاي والمحروقات....

*تنصيب مجلس المنافسة والحرص على أن يكون مستقلا في قراراته استقلالية حقيقية، وقادرا على مواجهة ضغوطات اللوبيات المختلفة، وكذا التأثيرات والتدخلات السياسية وذلك لن يتأتى إلا باختيار الشخصيات المشهود لها بالاستقلالية والنزاهة الفكرية والعملية. المدخل الثاني: المدخل الاقتصادي والجبائى.

*تشجيع الاقتصاد التضامني في القطاعات التي تعرف واقعا احتكاريا وتشجيع قنوات التوزيع القصير canaux de distribution courts ، وذلك للحد من المضاربة وكثرة المتدخلين في مجال التوزيع لما لذلك من تأثير سلبي على مستوى الأثمان.

*إقرار إصلاح ضريبي عادل وذلك بتخفيف العبء الضريبي على الشرائح ذات الدخل المحدود كالرفع من مستوى الدخل المعفى وتخفيض الضريبة على القيمة المُضافة بالنسبة للمواد الأساسية وزيادتها بالنسبة للمواد الكمالية مع خلق شرائح ( tranches) إضافية بالنسبة للمداخيل العليا وكذا مراجعة الضريبة على الشركات وتوسيع الوعاء الضريبي وإقرار ضريبة على الثروة.

المدخل الثالث: المدخل الاجتماعي

وذلك بالقيام بإصلاحات هيكلية في القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة العمومية من أجل تجويدهما وإرجاع الاعتبار لها .كما يقتضي ذلك فتح مفاوضات حقيقية مع النقابات ـ عوض الاستهزاء بها ـ تؤدي إلى زيادة حقيقية في الأجور و إقرار السلم المتحرك للأجور وتعميم التغطية الصحية .

المدخل الرابع: المدخل الدستوري والسياسي.

إن الاختلالات التي يعرفها الاقتصاد شبه الاحتكاري تتعمق بشكل كبير في ظل المجتمعات التي تعرف عجز ديمقراطي مما يجعل الإصلاح الدستوري مهمة مركزية من أجل دمقرطة الدولة والمجتمع ومحاربة الفساد والريع وفصل السلطة السياسية عن مجال المال والأعمال والقيام بإصلاحات سياسية حقيقة تُمكن من فرز برلمان قادر على التشريع والمراقبة وحكومة قوية في مستوى تطلعات المغاربة.

المدخل الخامس: المدخل النضالي.

إن هذه الإصلاحات الضرورية تقتضي تعديلا حقيقيا لميزان القوى المختل لصالح الطبقات والشرائح الاجتماعية المتضررة من السياسات الطبقية المتبعة، الشيء الذي يطرح وبقوة ضرورة العمل على توحيد قوى اليسار الديمقراطي وبناء الإطارات المجتمعية المناضلة القادرة على مقاومة التغول النيوليبيرالي وذلك بتنويع وتعدد المبادرات النضالية المشتركة بين هذه القوى والتسريع بخلق الجبهة الاجتماعية وبتأسيس آلية مستقلة ومناضلة لحماية المستهلكين والدفاع عن القدرة الشرائية للمواطنين .

إن نجاح كل هذا مرهون بالقدرة على التقاء المبادرات النضالية مهما كانت طبيعتها و أشكالها، فالنضال النقابي ليس خصما للحراك الاجتماعي، والنضال السياسي والمؤسساتي واجهة أساسية للنضال الجماهيري وحركات مثل حركة المقاطعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي على أهميتها ليست بديلا عن الحركات النضالية في الشارع .

عبد السلام العزيز: الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي