وقد جاءت أوامره لمواجهة عجز ميزانية بلاده المقدر ب39 مليار دولار عام 2015، نتيجة هبوط أسعار النفط. وتعد هذه الإجراءات ضرورية في ترشيد النفقات، لاسيما وأن ثلثي الأجراء يعملون بالقطاع الحكومي ويتقاضون أجورهم من الميزانية العامة. والأجمل ما فيها، عدم المس بالقدرة الشرائية للمواطنين والاستمرار في مساعدة المعوزين والطلبة، دون تفريط في الحقوق أو إجهاز على المكتسبات. بيد أنه على عكس ذلك، وبهدف تحقيق توازنات اقتصادية وتقليص عجز الميزانية، ارتأى "حكيم" زمانه رئيس حكومة بلادنا المنتهية ولايته والأمين العام لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، اتخاذ قرارات ارتجالية جائرة ولا ديمقراطية وفق سياسة اقتصادية واجتماعية، اعتبرتها المركزيات النقابية وأحزاب المعارضة معادية للشعب المغربي عامة والطبقة العاملة خاصة، بعد أن تنكر لمطالبها المشروعة ولحرياتها وحقوقها ومكتسباتها، بإجهازه العشوائي على صندوق المقاصة، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار، الزيادة في الضرائب، تجميد الأجور، تفكيك الوظيفة العمومية، تفويت الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة والماء والكهرباء والنظافة لشركات أجنبية تحت ذريعة التدبير المفوض، وتخريب أنظمة التقاعد... فبعد قيامه بتحرير أسعار المحروقات، والانتقال إلى رفع الدعم عن مواد الاستهلاك الأساسية، وتقويض القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، دون أن يرافق ذلك ما وعد به من دعم مباشر للفئات المعوزة والأكثر هشاشة في المجتمع، باستثناء دريهمات معدودة لبعض الأرامل والمطلقات وعدد محدود من الطلبة، ارتفع منسوب الاحتقان الاجتماعي وتصاعدت أمواج الإضرابات القطاعية والوطنية والعامة، والاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية، ووجهت معظمها بمجازر دامية إثر التدخل السافر للسلطات الأمنية وممارسة العنف المفرط ضد المحتجين السلميين في أكثر من مناسبة، بالنسبة للمعطلين ذوي الشهادات العليا وخاصة منهم أصحاب محضر 20 يوليوز والأساتذة المتدربين... وقد اعتمدت الدولة نظام المقاصة، لضمان تموين الأسواق بالمواد الأساسية وحماية قوت البسطاء، والسهر على التحكم في الأثمان وعمليات الاستيراد والتصدير، والمساهمة في تطوير القطاعات الغذائية كالسكر والزيت والقطاعات الصناعية: مواد النفط والإسمنت... صحيح أنه في السنوات القليلة الماضية، بلغت التكلفة المالية لصندوق المقاصة حدا لا يطاق وتجاوزت حجم الميزانية المرصودة، ارتفعت معها النفقات العمومية مقارنة مع نفقات الاستثمار، الذي يساهم في تحفيز الاقتصاد الوطني. لكن ما ليس صحيحا، هو أن الحكومة عوض لجوئها إلى إصلاحات هيكلية واجتراح حلول ناجعة كالضريبة على الثروة وتخفيض الأجور العليا ومراجعة تعويضات الوزراء والبرلمانيين... اكتفت بحلول ترقيعية تهدف إلى تقليص نفقات الصندوق والدعم المخصص له، حيث قررت وضع نظام المقايسة، نجم عنه أوتوماتيكيا الزيادة في أسعار المحروقات، ومن ثم لم تتوقف عن هجومها الأرعن على جيوب المواطنين، لإنقاذ بعض مؤسسات الدولة التي تعاني صعوبات مالية، نتيجة سوء التدبير والنهب وتبديد المال العام، كما هو الشأن بالنسبة للمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب وصناديق التقاعد... وفي ظل أجواء التوتر والوضع الاقتصادي المتأزم، وانتهاج الحكومة تقشفا انتقائيا، عبر تجميد أجور وترقيات صغار الأجراء، وتقليص حجم الاستثمار الوطني والحد من فرص الشغل، أبى كل من رئيس مجلس النواب رشيد الطالبي العلمي وعدد من البرلمانيين إلا أن يصبوا الزيت على النار، حيث دشن الأول مهامه برصد مبلغ 17 مليار سنتيم، أي ما يعادل زيادة أربعة ألف درهم لكل برلماني، كتعويض عن التنقل والإقامة في أفخم فنادق الرباط، وتقدم الآخرون من أحزاب الأغلبية والمعارضة، بعرض مقترح قانون على لجنة المالية بمجلس المستشارين، يقضي بتغيير وتتميم القانون رقم: 24.92 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 4234 بتاريخ 8 رجب 1414 الموافق ل22 دجنبر 1993، المتعلق بنظام معاشات أعضاء مجلسي النواب والمستشارين، يطالبون من خلاله بتوريث معاشاتهم لزوجاتهم وأبنائهم بعد الوفاة. فكان أن احتدم النقاش في الفضاء الأزرق من لدن فعاليات شبابية ومجتمعية، ودخول مجموعة من وسائل الإعلام الرقمية المستقلة على الخط، للمطالبة بإلغاء معاشات الوزراء والبرلمانيين، باعتبار الولاية البرلمانية انتدابا تشريعيا محدود المدة، وليست وظيفة دائمة ينتفع منها البرلماني مدى حياته، فهو ممثل الشعب ويلزمه أن يكون في مستوى ثقة الناخبين. غير أن هذا النقاش، دفع عديد المسؤولين بالسلطة التنفيذية إلى القيام بردود أفعال متهورة أججت غضب الشارع، ومنهم القيادية في حزب التقدم والاشتراكية والوزيرة المنتدبة المكلفة بالماء شرفات أفيلال، التي اعتبرت الأمر مجرد نقاش شعبوي، وأن ما يتقاضاه البرلماني لا يتعدى "جوج فرانك". والأفظع من ذلك كله، أن رئيس الحكومة فضل التقليل من أهمية هذا المطلب المشروع، ليستمر في الانصياع لإملاءات صندوق النقد الدولي، وبدون أدنى اعتبار للمركزيات النقابية، التي فقدت بريقها ورصيدها النضالي لعدة عوامل متداخلة، ولم تكن في مستوى تطلعات منخرطيها من عمال وموظفين مقهورين، أقدم على تنزيل خطته المشؤومة حول "إصلاح" التقاعد، المتجلية في رفع سن التقاعد إلى 63 سنة تدريجيا، تخفيض المنحة الشهرية والنسبة السنوية من 2,5 إلى 2 % بالنسبة للتقاعد حد السن ومن 2 إلى 1,5 عند التقاعد النسبي، معتبرا أن المسألة مصيرية في ظل ما يتهدد الصناديق من إفلاس ! وبما أن الثقة انعدمت في زعماء الأحزاب والنقابات وممثلي الأمة، الذين لم يتفاعل الكثيرون منهم مع نبض الشارع، ولم يبدوا مواقفهم حول هذا الريع السياسي الذي يتراوح بين 8 آلاف درهم للبرلمانيين، و40 ألف درهم للوزراء، فإن الأمل بات معقودا على تدخل ملك البلاد لإنهاء التوتر الحاصل ومراجعة الأجور العليا وامتيازات "خدام الدولة"...