جمال المحافظ :حوار هادئ حول حملة المقاطعة

جمال المحافظ :حوار هادئ حول حملة المقاطعة جمال المحافظ
أظهرت دعوة مقاطعة بعض العلامات التجارية لثلاثة منتوجات،فشل قنوات التواصل السياسي الحكومي والبرلماني ومعهما مؤسسات الوساطة من هيئات سياسية ومنظمات نقابية ومجتمع المدني، في التعاطي مع هذا الاسلوب الاحتجاجي الجديد والمرشح للتوسع واتخاذ أشكال جديدة وأبعاد لا يمكن توقع تداعياتها ونتائجها.
وفي ظل غياب دراسات علمية، وصحافة التقصي واعلام التحقيق،يصعب في الوقت الراهن تتبع وتفكيك مجمل العناصر المرتبطة بتداعيات هذه المبادرة الاحتجاجية التي اتخذت العالم الافتراضي وسيلة للتعبير عن مطالب كانت الى وقت قصير حبيسة الصدور، الى أن اندلعت لتفاجئ الجميع بقوتها وعنفوانها وبحجم تأثيرها على الرأي العام الذى تجاوب معها سلبا وايجابا، غير أنها على العموم كان لها انعكاس سلبي على المنتوجات المستهدفة بحملة المقاطعة هاته.
وتعد المقاطعة أصلا سلاح فعال للضغط والردع، وتستند بذلك على قواعد الرفض المنهجي والامتناع الارادي عن استهلاك منتجات شركة وماركة وعلامة تجارية معينة للحد من الاحتكار والخلط بين السلطة والمال، أو الامتناع عن إقامة أي علاقة اقتصادية مع دولة معينة ، للضغط عليها لإرغامهاعلى الاستجابة لمطالب معينة، كامتلاك السلاح النووي والالتزام بحقوق الإنسان، أو لقيامها بتهديد السلم والأمن العالميين، أو تكون المقاطعة بمثابة مقاومة شعبية بهدف إنهاء الاحتلال كما هي التجربة الفلسطينية، أو لمحاربة الاستبداد وقف العدوان على بلد ما.
كما يرتبط حجمالمقاطعة الاقتصادية والتجارية بمدى تأثيرها قدرتها على تعبئة الرأي العام وعلى التحمل والصبر والصمود، كما يرتبط تأثيرها بمدى قابلية الطرف المستهدف للرضوخ لمطالب ورغبات المقاطعين.
وقد استمدت المقاطعة "بايكوت بالإنجليزية "، من اسم الانجليزي شارلز بويكوت، المختص في المضاربات العقارية وذلك علىاثر رفضه الاستجابة لطلب الفلاحين الايرلنديين العاملين بأراضيه، بتخفيض سومة كراء المنازل التي كان يستأجرونها منه، خلال فترة ما كان يسمى ب"مجاعة البطاطا" سنة1880،مما دفع بهؤلاء المزارعين الى الامتناع عن العمل في أراضيه وأراضي أصدقائه، وهو ما عجل برحيل بويكوت عن إيرلندا برمتها بسبب هذا الاسلوب الاحتجاجي الجماعي.
كما يحتفظ التاريخ بنماذج وأشكال متعددة من المقاطعة منها امتناع الأمريكيين من أصول افريقية المقيمين في مونتجومري في الخمسينات، من ركوب حافلات النقل العمومي بهذه المدينة في ولاية ألاباما الامريكية بسبب تبنى سياسة الفصل العنصري في وسائل النقل، حيث تمت مقاطعة ركوب حافلات النّقل ما بين 1955 و1956 لمدة فاقت 300 يوما.وبفرنسا قاطع عدد من المستهلكين الفرنسيين بناء على مبادرة من شبكة "فولتير"منتجات احدى الشركاتالعالمية المختصة في مشتقات الحليب ، احتجاجا على خطط ترمى الى تسريح عدد من العمال أعلنتها الشركة سنة 2001.
وإذا كان سلاح المقاطعة يعد تعبيرا مدنيا وسلوكا وأسلوبا للاحتجاج السلمي، واختيارا فرديا وجماعيا من أجل الدفاع عن قضية معينة ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية، فان مختلف التجارب أبانت عن أنه سلاح رادع وفعال، يساهم في تراجع حجم المبيعات اذا كان المستهدف من حملة المقاطعة منتوجات تجارية، يكون لها انعكاس وتأثير علىصورة الفاعلين السياسيين خاصة الاعتبارية داخل المجتمع، اذا كانت حملة المقاطعة ذات طبيعة وحمولات سياسية.
وساهمت الثورة التكنولوجية في مجال المعلوميات والاتصالات،في رفع احتكار المعلومات، وجسر في نفس الوقت علاقات التفاعل بين شرائح المجتمع المختلفة، وجعلهم أكثر قربا وتقاسما للأفكار والمعطيات والأخبار التي أصبحت في متناول الجميع يتوصلون بها في أسرع وقت ممكن، مما جعل العالم يتحول الى أقل من قرية صغيرة، وأصبح بذلك العالم الافتراضي فضاء حرا للتعبير عن الرأي، وملاذا ذهبيا للهروب من سلطة الرقابة ما ظهر منها وما خفى، وأضحى الاعلام ووسائط الاتصال، يكتسى أهمية بالغة، بفضل التحولات التقنية في مجالات التواصل ومتغيرات مجتمع الاعلام والمعرفة.
ونتيجة ذلك تزايد الاقبال المكثف على هذه الوسائط من كافة الاطراف حاكمين ومحكومين، بفعل التأثير الذي تمارسه على تشكيل الرأي العام وتوجيهه سلبا أو ايجابا، وتحول بذلك الفضاء العمومي الى فضاء اعلامي بامتياز.
وتمكنت حملة مقاطعة العلامات التجارية الثلاث التي اندلعت شراتها الاولى في شبكات التواصل الاجتماعي، في وقت قصير من استقطاب شريحة واسعة من الرأي العام الذى تعبأ افتراضيا، وتحول الى قوة ضاغطة على إنتاج المعنى وتشكيل الرأي العام وتوجيه، وهو معطى مرشح للتطور بفضل تنامي الاقبال على وسائل الاتصال التي أصبحت في متناول أكبر عدد من السكان.
ليس المهم في الوقت الراهن،البحث والتساؤل فقط عن من يقف وراء حملة المقاطعة هاته أكان " اسلاميا" أو " يساريا" أو " مخزنيا" حتى، أو شيطنة هذه الحملة اعتماداعلى نظرية المؤامرة، بقدر ما يهم البحث عن تداعياتها السياسية واسقاطاتها الاقتصادية،وهذا لن يتم الا بفتح نقاش صريح وموضوعي بين كافة الاطراف مع اخضاع هذه المتغيرات الى مبضع البحث العلمي الرزين لربح الرهانات المطروحة، وفق متطلبات العصر والتي يأتي في مقدمتها من جهة، التأقلم والتكيف مع تحديات الثورة المعلوماتية والرقمية وتكنولوجيا الاتصال، ومن جهة أخرى الاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المشروعة التي رفعت الحراك الاجتماعي الذي عرفته عدد من مناطق وجهات البلاد.
                                                              جمال المحافظ، باحث في الاعلام والاتصال