سفيان الحتاش: مسيرة الدار البيضاء خطوة لبناء مشروع ثقافي تنويري

سفيان الحتاش: مسيرة الدار البيضاء خطوة  لبناء مشروع ثقافي تنويري

قبل قراءة أبعاد ودلالات مسيرة الدار البيضاء ضد أخونة الدولة والمجتمع يمكن تسجيل بكثير من الارتياح والإيجابية ظاهرة الصحوة واليقظة التي أبدتها كثير من القوى الحية بالمغرب وكذا مؤسسات الدولة والمجتمع المدني اتجاه المشاريع الأصولية في تجلياتها الإخوانية والوهابية في الآونة الاخيرة. فبعدما حذرنا لسنوات من هذا المرض الذي يزحف على المغرب مجتمعا ودولة وحضارة وهوية انتبهت مؤخرا بعض التيارات والقوى الاجتماعية وكذا بعض الدوائر الرسمية الى هذا الخطر الذي يهدد كيان الدولة والمجتمع ويجره الى الفناء والعدم. ويمكن اعتبار مسيرة الدار البيضاء أنها تأتي في هذا السياق الضاغط والحرج الذي تعيشه القوى السياسية ونحن على بعد أيام قليلة من استحقاقات 7 اكتوبر بما تشكله من تمفصل استراتيجي في المغرب السياسي، ولست أقصد هنا حدث الانتخابات في حد ذاته ولكن لأن هذه الانتخابات ستحدد هل سيستمر المغرب مرتهنا للمشروع الأصولي الإخواني الأممي الناخر للمؤسسات السياسية والثقافية والدينية أم أن 7 من اكتوبر سيشكل صحوة سياسية ستبعد شبح الأصولية على الأقل من مؤسسات الدولة السياسية، مع ضرورة استمرار المعركة حتى لو تحقق هذا الأمر لأن مشكلتنا مع المشاريع الإخوانية والوهابية تتجاوز مجرد الصراع السياسي الانتخابي فالمشكلة في جوهرها كما نقول دائما هي هوياتية ثقافية، تتصل بأسئلة الحقل الديني والثقافي في المغرب والهوية الدينية المغربية.

وهنا لا بد من التذكير ببعض التجارب الاسلامية والعربية، واذا أخذنا التجربة الجزائرية التي تشكل لنا ولكل الشعوب درسا كبيرا لما شكلته من مأساة حقيقية. فعندما اندلعت الأزمة الاقتصادية والسياسية في الجزائر برزت الى الوجود أزمة شرعية النظام السياسي بعد تآكل الشرعية الثورية لجبهة التحرير الوطني وتتمثل جذورها في التصارع بين عدة شرعيات سياسية وثقافية في الواقع السياسي والاجتماعي للمشهد الجزائري  فهناك الشرعية الثورية التاريخية للاستقلال، والتي كان الحكم وحزب جبهة التحرير الوطني يرتكزان عليها، باعتبارها القوة التي حققت الاستقلال، حيث تبنت الأيديولوجية التعبوية الاشتراكية باسم العدالة الاجتماعية، ودور جزائري قائد في إطار حركات التحرر الوطني في المنطقة العربية، والعالم الثالث. ومع خفوت الرافد الإسلامي في إطار الأيديولوجية (يعني أن السلطات الجزائرية لم تنتبه الى دور الدين في بلورة هوية الدولة والمجتمع وتأثير ذلك على الوعي السياسي والبناء الثقافي للدولة والمجتمع)، ونظام الشرعية السائد آنذاك، مع بومدين، ثم الشاذلي بن جديد أحد الضباط السابقين في الجيش الفرنسي، والذي جاءت به المؤسسة العسكرية، وقد ترتب على ذلك أن القوة الحقيقية في النظام هي المؤسسة العسكرية، في ظل تآكل حزب جبهة التحرير، ونشوب الصراعات الداخلية بين كوادره وقياداته وصراعاتهم على الحكم وتدهور المكانة الأيديولوجية التعبوية للحزب والنظام في ظل تطورات الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية وفى ظل تردى الأوضاع الداخلية وشيوع الفساد الداخلي في الإدارة والحزب والجيش وهي العوامل التي أدت في تفاعلاتها العميقة عند العمق إلى  أزمة هوية في النظام السياسي- كما أسلفنا -، الأمر الذي وفر الشروط الموضوعية إلى بروزالمشروع الأصولي السلفي الوهابي والإخواني الذي وجد سنده في الجذر التاريخي للهوية، ودور المدرسين المصريين المنتمين لحركة الإخوان المسلمين، أو ذوى الميول الاسلاموية، وتشجيع السلطة الجزائرية على صياغة نمط "إسلامي" إخواني معتدل في مواجهة أزمة الهوية ( في حين كان على الدولة الجزائرية بناء مشروع ثقافي وديني متنور ينبع من الثقافة والهوية الجزائرية)، قاده بعض الوعاظ من مصر والمشرق العربي ولم يكن مشروع الجبهة السلامية للإنقاذ، سوى تجسيدا لتطورات تاريخية بطيئة ولكنها عميقة، لتبلور شرعية تاريخية وجدت ظروف نمو جديدة (الفساد ـ التغريب الثقافى، واللغوى الساحق ـ تآكل الشرعية القديمة وعجز جهاز الحكم عن إدارة البلاد ـ والأزمة الثقافية، وغياب أنتلجنسيا عصرية، شيوع نظام لتكوين الرداءة الثقافية والفكرية )وهي الشرعية "الإسلامية" التي استطاعت أن تفرض توجهاتها لأسلوب إدارة الأزمة السياسية الجزائرية وقد وظفت في ذلك حماسة الخطاب والعاطفة الدينية لاستقطاب الفئات المهمشة مستغلة فشل المشروع النهضوي الذي بدأه نظام الحكم منذ الاستقلال و الذي يحتكم لتوجهات الاقتصاد الاشتراكي الذي يعتمد على الصناعات الثقيلة كخيار استراتيجي لتحقيق التنمية ،وقد كانت  انتفاضة الجوعى في أكتوبر 1988، و أزمة قوانين الانتخابات التشريعية فى يونيو 1991 مرحلة فاصلة في التاريخ السياسي للجزائر. ومع تآكل وانهيار شرعية حزب جبهة التحرير والنظام، أصبحت هناك فجوة وأزمة بين شرعيات عديدة، شرعية تهاوت هى لحزب جبهة التحرير والرئيس الذي يعتمد على الجيش وشرعية جماهيرية وثقافية هي شرعية الإنقاذ الإسلامية، ولم يعد أركان الحكم الرئيس والجيش، وجبهة التحرير الوطني يستندون إلى شرعية سياسية بين أوسع الفئات الاجتماعية وهو الأمر الذي أكدته نتائج الانتخابات البرلمانية في دورتها الأولى.

كما لا ننسى أيضا التجربة التركية في شخص النموذج الأردوغاني الإخواني الذي قاد انقلابا ناعما بطيئا على المؤسسة العسكرية التي كانت تحمي التجربة العلمانية بمشروعية دستورية، حيث كانت ينص الدستور التركي في الفصل 35 منه على أن المؤسسة العسكرية تملك حق التدخل دستوريا إذا رات أن هناك انحرافا عن العقيدة العلمانية للدولة. لقد استطاع أردوغان أن يلغي هذا الفصل كما استطاع أن يعزل عشرات الضباط الأتراك وأن يلفق لهم تهما واهية، وعندما أحست المؤسسة العسكرية بالتهميش والإقصاء أرادت أن تستعيد زمام الأمور وجدت نفسها خارج الزمن السياسي، ولم ينفع الانقلاب العسكري الذي نفذه بعض الضباط بشكل تقليدي أن يعيد الامور الى جادة الصواب من حيث أنها كانت الحارس الشرعية والدستوري لعلمانية الدولة. والأخطر في كل هذا أن أردوغان نفذ هذا الانقلاب بتغطية غربية أطلسية لأن الغرب كان في حاجة إلى نظام إسلاموي لتعويمه في المنطقة لاستحقاقات معينة تبينت لاحقا مع ما يسمى الربيع العربي والدور الوظيفي القذر الذي لعبه ومازال يلعبه أردوغان الإخواني .

هذه بعض الدروس والعبر يجب  أن تأخذها الأحزاب والنخب السياسية والفكرية حتى تواجه هذه المشاريع الظلامية بمشاريع فكرية وثقافية ودينية متنورة وهذا لايعني أننا نسقط تجارب البلدان والمجتمعات الأخرى علينا ولكن نريد أن ننبه الى بعض الأخطاء التي وقعت فيها بعض التجارب حتى نستفيد منها. فلا يمكن، بل يستحيل أن تواجه المشاريع الإخوانية بخطابات علمانية أو يسارية إديولوجية لأن هذا المنهج يقوي الحركة الأصولية وتقدم نفسها انها تدافع عن الدين في وجه "العلمانيين والشيوعيين الملحدين" وتزيد من أتباعها. يجب أن ننتبه هنا إلى قضية المنهج والخطاب في مقارعة المشاريع الإخونجية ولابد من الاشتغال على مشروع ديني وطني تنويري بنبع من الهوية الدينية المغربية المتشبعة بالوسطية والاعتدال. وقد كتبنا كثير من الأبحاث والمقالات في هذا الصدد مقتفيين في ذلك أثر الدكتور سي محمد المرابط والراحل الباحث والمفكر الحسين الادريسي والاستاذ والصحفي المقتدر سي عبد الرحيم أريري.

مسيرة الدار البيضاء على أهميتها يجب أن لاتتوقف في الدار البيضاء. ونتمنى أن تكون مسيرة فكرية ثقافية حضارية لبناء مغرب ديمقراطي بهوية ثقافية وفكرية ودينية متنورة كما كان في تاريخه ذو إشعاع حضاري متميز.