تدمري: المقاطعة الشعبية بين تمثلات الأصولية المخزنية وتمثلات الأصولية السياسية الغربية

تدمري: المقاطعة الشعبية بين تمثلات الأصولية المخزنية وتمثلات الأصولية السياسية الغربية د. عبد الوهاب تدمري

توصلت من صديق بمنشور يذكرني بتجربة الشعب الأرجنتيني من بضع سنوات خلت في شأن مقاطعة بيض الدجاج، بعد أن عملت الشركات المنتجة والموزعة لهذا المنتوج بزيادة ثمنه بعشرة في المئة من قيمته السابقة. المقاطعة امتدت لعشرة أيام فقط فكانت النتائج فورية:

أقدمت الشركات المحتكرة لهذه المادة بتخفيض ثمنها بـ 25%من ثمنها الأصلي.

تقدمت هذه الشركات باعتذار رسمي للشعب الأرجنتيني عبر القنوات الرسمية للدولة.

قرأت هذا المقال بتأن، وبما يتضمنه من دلالات تخص شكل العلاقة التي تستحضر مبدأ الإنصات لضمير الشارع، والتي يجب أن تربط  الحكومات بشعوبها، ودور الدول في  التدخل من أجل احترام التزام الجميع  بدولة الحق والقانون والحرية والعدالة الاجتماعية التي هي أساس التعاقد بين المجتمع وحكامه بما يفضي إلى حل النزاعات بينهما، حتى لا يؤدي ذلك إلى حالة عدم استقرار اجتماعي  وسياسي قد يعصف بالجميع، لأن في السلم  مصلحة متبادلة  بين الأفراد (المجتمع ) والسلطة  التي خول لها صلاحية حكمه. إنه تمثل حقيقي لمفهوم العقد الاجتماعي، كما ورد عند جون لوك و جون جاك روسو الذي يعطي الحق للشعب في التمرد ضد سلطة الحاكم عندما يكون هذا الأخير مستبدا ويطمع في سلب حقوق المواطنين والمواطنات أفرادا أو جماعات. أو بمعنى آخر حق الشعب في المقاومة عندما يستشعر استبداد حكامه لأن العقد الاجتماعي الذي تأسست السلطة أو الدولة بموجبه يلزم  الحاكم علي احترام وحماية حقوقهم  الفردية والجماعية   او المدنية التي بموجبها تنازلوا عن حقوقهم الفطرية اما كليا حسب روسو، أو جزئيا حسب لوك.

لكن عندما استحضر واقعنا المغربي، بكل ما يتصف به من حراك شعبي وتذمر لشرائح واسعة من المجتمع التي أبدعت في أشكال مقاومتها للظلم، بعد أن يئست من التشكي عبر الوسائط المتاحة لها، فالتجأت إلى وسائل أخرى  مباشرة، سواء عبر تنظيم احتجاجات سلمية، أو حملات إعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمقاطعة بعض المنتجات والبضائع التي تمت الزيادة في أثمانها، إلخ.. كل هذا بعد أن فقدت الكثير من حقوقها الأساسية، كالحق في الشغل والصحة والتعليم والعيش الكريم، والحق في المواطنة وحرية التعبير.

 ـو عندما استحضر طريقة تعامل الدولة مع هذه الاحتجاجات وهذه الدعوات للمقاطعة بما تتسم به ولا زالت من عنف هدفه إخضاع المجتمع عنوة لسلطتها سواء بالاعتقالات أو القمع وسلب المزيد من الحريات واتهام كل من سولت له نفسه مقاومة سلطة الاستبداد بالخيانة  والعمل على خلق شروط التمرد ضد سلطة الحاكم الذي يعتقد أن الأفراد قد تنازلوا  له عن جميع حقوقهم مقابل الأمن على بقائهم قيد الحياة التي هي غريزة فطرية في الإنسان ودون ان يتنازل هو عن أي حق من حقوقه الفطرية. إننا فعلا أمام سلوك يكرس المفهوم القائم على أن المجتمع والأفراد يفضلون من أجل غريزة البقاء على قيد الحياة  العيش تحت سلطة الاستبداد بدل التوجه إلى الفوضى والعودة إلى الحياة الفطرية بما تعنيه من همجية وحرب الكل ضد الكل كما عرفها هوبز في سياق دفاعه عن الحاكم المستبد والسلطة القاهرة لنزوعات الفرد الفطرية المدمرة لوجوده وبالتالي فهو يفضل الخضوع والامتثال لسلطة الحاكم مهما كانت قاهرة ومستبدة وكلما زاد طغيان السلطة زاد خضوعه وامتثاله لها.

اني فعلا جد قلق من سيادة هذا المفهوم لدى نخبنا الحاكمة التي لا تكترث لتعبيرات المجتمع وانفعالاته الفردية والجماعية ولا لمواقفه  السلبية تجاه المؤسسات الوسيطة التي لم يعد يأتمن لها ويعتبرها دمى في  يد الحاكم، و ذلك بكل ما تحيل عليه هذه السلوكات والمواقف التي يعبر عنها من إعلان صريح عن عدم رضاه عن حكامه بل أكثر من كل هذا لا تري  فيه هذه النخب الحاكمة سوي قطيعا من الأفراد تتغلب عليهم غرائزهم الهمجية التي تتشكل منها الطبيعة الاصلية لكل فرد مما يستوجب المزيد من الاستبداد من أجل إخضاعه لسلطة الحاكم  حتى لا يكون مدمرا للآخر ولنفسه في إطار ما يخوله  للاخرين حق الرد من اجل البقاء. وذلك بالشكل الذي يتناقض حتى مع مفهوم أرسطو الذي يرى في الإنسان  كائنا اجتماعيا بطبعه  وما بالك بمفاهيم  فلاسفة العقد الاجتماعي الآخرين كجون لوك و روسو  مؤسس نظرية فصل السلط ومن قبله مونتسكيو، وهي النظرية التي لا يمكن أن تستقيم بدونها دولة الحق والقانون التي تكون ملزمة بحماية الحقوق المدنية والحريات التي من أجلها تخلي الفرد عن حقوقه الفطرية  لصالح المجتمع.

لكن ما يسترعي انتباهي هو كيف نخبنا الحاكمة أن تتخلى على جميع الشعارات التي زينت بها  مرحلة ما بعد الاستقلال كالحداثة والديمقراطية ودولة الحق والقانون وهي كلها مفاهيم تستقي جذورها الفكرية من  فلسفة عصر الأنوار وما رافقها من نقاشات حول الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وماهية العلاقة التي يجب أن تربط الحاكم إذا كان فردا أو الحكام إذا كانوا مجموعة  بالمجتمع والمجتمع بحكامه وهي كلها مفاهيم تجد أصولها  النظرية في مفهوم العقد الاجتماعي عند جون جاك روسو. و كيف لها أن تعود في ممارساتها السياسية إلى مرحلة ما قبل الحداثة ونحن في الألفية الثالثة.

بل هي عودة حتي الي مرحلة ما قبل انطلاق النقاش القانوني والفقهي الخاص بواقعنا المغربي الذي دشنه بعض الفقهاء خلال مرحلة حكم السعديين عندما طالب الفقيه يحي الحاحي علامة تارودانت بالبيعة المشروطة للسلطان المولى زيدان علي أساس ان يكون في الحكم أخذ ورد والتزام بين الطرفين. أو حتى ما طالب به الشيخ الكتاني في بداية القرن العشرين من شروط للبيعة بالنسبة للسلطان المولى عبد الحفيظ   بعد أن تم خلعها عن سلفه السلطان المولى  عبد العزيز نظرا لعدم التزامه بشروط البيعة و إخلاله بواجباته إزاء الله والوطن والشعب  وذلك رغم تضحيته بنفسه هو ومن معه في سبيل هذا المبدأ الذي كان طموحا واستراتيجيا يجمع بين ما راكمه  الفكر الإنساني  الأوروبي وخاصة الإنجليزي الذي كان يعيش على إيقاع النهضة الاوروبية  وبين واقعنا المغربي بكل خصوصياته، وهو ما كان سيعمل على تطوير شكل نظامنا السياسي.

إننا فعلا أمام وضع لا يمكن أن يستمر على حاله وعلى نخبنا الحاكمة أن تستشعر مكامن الخطر في في هذه الرجعة إلى الأصول التقليدية للدولة المخزنية ،لما يكتنف هذه الرجعة من مخاطر قد تكون سببا في نشر الفوضى الشاملة، خاصة ونحن نعيش في زمن الالفية  الثالثة التي يعرف فيها العالم و المجتمع المغربي خاصة واقعا سوسيو ثقافيا  وسياسيا  مناهضا للظلم وسلطة الاستبداد، وليس هناك إمكانية لجر المجتمع إلى الخلف، سواء بمفهوم منظري العودة الى الأصولية المخزنية أو بمن يتبنون أطروحة هوبز في الدفاع عن سلطة الاستبداد.