و لكن و منذ سنوات، و ربما هذا الأمر بدأ منذ بروز الثورة الصناعية و التكنولوجية، لم يعد الإنسان متأكد تماما من قدرته على صنع قراره السياسي، فاجتاح مرض "الإحباط و الاكتئاب السياسي" مختلف ربوع العالم. و إذا أردنا أن نفهم هذا الإحساس، يمكن أن نتخيل لاعب الشطرنج المحترف و هو يلعب أمام جهاز الكمبيوتر و نتساءل عن شعوره الداخلي. فبينما الإنسان يعتقد بأنه يقوم بمجهود فكري جبار ليحرك قطع الشطرنج، يجيبه الحاسوب في ثواني ليحطم ببساطة الخطط التي بناها بفخر، يجيبه بصمت مطبق و بلا مبالاة و بدون استحسان للمجهود الذي قام به، يجيبه بدون أن يهتم بمشاعره و لا بمصير "أناه المتضخمة و المتعالية" و لا يعلم حتى بما سببه له من ألم و إحساس بالعجز التام.
لم يعد يشعر الإنسان بأنه البطل، و بأنه مركز الكون. بل أصبح يشعر بأنه ثانوي و هامشي. لقد أصبح مجرد شيء، مجرد حلقة في سلسلة معقدة، متداخلة، محكمة و مرتبطة و مترابطة مع بعضها البعض و في نفس الوقت عاجز تماما عن فهمهما أو الوصول إلى كنهها.
فالإعلام متحكم فيه، و المجتمع يمكن توجيهه، و التمثيليات هجينة، و النقابات أضعفت، و الأحزاب اخترقت، والخصوصية الفردية انتهكت، و الأنظمة البنكية تقوت، و الشركات العالمية نافست الحكومات، و روح الإنسان تاهت و هكذا أصبح الإنسان الذي تفنن في مختلف العلوم عاجز تماما على أن يتحكم فيما وصل إليه فسيطر عليه ما بناه و انتصر عليه كما انتصر عليه جهاز الكمبيوتر الجامد في مباراة الشطرنج ...
فمن الطبيعي، أن يشعر الإنسان بالإحباط و العجز و أن يتساءل عن دوره و قيمته في هذه الحياة؟
و أمام كل أزمة، تكون للإنسان ثلاث خيارات: الهروب، التكيف أو المقاومة.
فهناك من يختار الهروب. و طرق الهروب كثيرة و متعددة من إفراط في الشراب أو إكثار في السفر أو الاهتمام بعالم الروحانيات أو الانغماس في المطالعة بإفراط...
و هناك من يختار التكيف و الـتأقلم. و هو بهذا يتخلى عن روحه و قناعاته ليعيش.
و هناك من يختار المقاومة. و المقاومة نوعان. مقاومة ثورية عاطفية و هو بهذا الخيار يلقي بنفسه إلى التهلكة. و المقاومة المنظمة. و هي المقاومة عبر الفعل السياسي الجاد المنظم و الملتزم.
و الخيار الأخير هو الأقرب إلى إسعاد الإنسان. لأنه من جهة لم يتخلى عن روحه و قناعاته. و من جهة لم يستسلم للواقع كيفما كان نوعه و من جهة أخرى حريص على حياته. و لأنه اختار أن يمارس إنسانيته عبر التفاعل المتبادل، و لأنه غالبا و مهما طال الزمان، فإن الفعل السياسي يؤثر إيجابا في المستقبل و يساهم في تغيير الأوضاع.
و لهذا السياسة تزعج ... و لكن فقط في البداية...