بوعلام بالسايح...مثقف السلطة الجزائرية رحيله يهز أركان النخبة الحاكمة

بوعلام بالسايح...مثقف السلطة الجزائرية رحيله يهز أركان النخبة الحاكمة

رغم النموذج النادر الذي سنّه الرئيس الجزائري الأسبق اليامين زروال، لما طلّق قصر المرادية في 1999 بمحض إرادته، واتجه بعد تسليم المهام للرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة إلى مسقط رأسه بمحافظة باتنة (شرقي العاصمة) حيث يقيم إلى حد الآن، إلا أن الآخرين في مفاصل الدولة يسيرون عكس ذلك، فالرئيس بوتفليقة يغامر بإدارة البلاد على كرسي متحرك رغم قضائه لأربع ولايات متتالية، ووزير الدولة ومستشاره الخاص بوعلام بالسايح غادر الحياة مؤخرا عن عمر الـ86 عاما، وليس من البيت أو التقاعد، بل من منصبه في الرئاسة، الذي عين فيه منذ شهرين فقط.
تلقى معارضون سياسيون وناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي، خبر تعيين المجاهد والدبلوماسي والوزير الراحل بوعلام بالسايح، في منصب كبير مستشاري رئيس الجمهورية منذ أسابيع، باستهجان وانتقاد شديدين، بسبب العمر المتقدم للرجل وتمسك رجالات السلطة بمناصب المسؤولية حتى في أراذل العمر، ولولا موقف الموت وابتعاد الرجل عن حلقة المغضوب عليهم في السلطة، فإن نفس الموقف كان سيسجل وربما أكثر من طرف هؤلاء، فالرجل البالغ من العمر 86 عاما، غادر الدنيا بعد شهرين من تعيينه في منصب المستشار.
ورغم أن الراحل يعد واحدا من الشخصيات المخضرمة، وأن التعيين كان بمثابة المكافأة من طرف الرئيس بوتفليقة، وربما حتى رغبة منه للاستفادة من خبرته الكبيرة في المجالات السياسية والدبلوماسية وحتى الفكرية، ووضعها في خدمة قصر المرادية والبلاد عموما، في ظل الظروف المشحونة التي تمر بها السلطة في الجزائر، والمنطقة عموما تحت ضغط التهديدات الأمنية والأجندات الإستراتيجية، فإن التعاليق وصفت القرار بـ"تعنت السلطة ورفضها خيارات التغيير والتجديد، بما أن البلاد تعج بالكفاءات المهمشة في مختلف المجالات".
لا توجد أجيال في نظر السلطة
مع تقلص حظوظ التغيير وتسليم المشعل من جيل ثورة التحرير إلى جيل الاستقلال، فإن الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي، يعوّلون على دور ملك الموت في أداء دوره، وانقراض جيل الشرعية الثورية، ولا ضير بالنسبة إليهم لانتظار سنوات أخرى لتؤدي دورة الطبيعة فعلتها، وانتهاء احتكار جيل الثورة لمفاصل ومؤسسات الدولة، ورحيل بوعلام بالسايح نموذج حيّ لعقدة السلطة من القصر إلى القبر.
وإذ يعاب على جيل ثورة التحرير عدم تحكمه في تطورات العصر، بما أن فيهم من لم تطأ قدماه أدراج الجامعة، فإن بالسايح يشذ عن القاعدة، فهو حامل لشهادة دكتوراه في العلوم الإنسانية، ويعد مثقف السلطة الذي خاض في السياسة والدبلوماسية، بالموازاة مع التأليف والكتابة، وهو من القلائل من جيله ومن رموز السلطة الذين ألّفوا في التاريخ والأدب والسينما.
أبرز ما يحسب للرجل، أنه رغم اشتغاله ومعاصرته لمختلف السلط التي حكمت الجزائر منذ الاستقلال إلى رحيله، فإنه ظل بعيدا عن حلقات المغضوب عليهم من طرف المعارضة أو الشعب، وعن أضواء الانتقاد أو الضلوع في المآزق التي مرت بها الجزائر طيلة العقود الماضية، بسبب أنانية وإخفاقات السلط المتعاقبة، فكان بمثابة القطعة التي تصلح لجميع المحركات، فرغم تباين وحتى تناقض رؤى حكام البلاد بين مجموعة وأخرى ومن زمن إلى آخر، إلا أن بالسايح ظل محافظا على انتمائه لطابور السلطة.
وجاءت برقية التعزية للرئيس بوتفليقة، مؤكدة تلك العلاقة وذلك النسق في تركيبة وتفكير رموز السلطة، حيث ورد فيها قوله "خرست لعمر الله ألسننا، لما تكلم فوقها القدر، وما عساي أن أقول بعد سماعي نبأ انتقال صديقي العزيز ورفيقي في النضال السياسي والدبلوماسي المغفور له بإذنه تعالى وزير الدولة الممثل الشخصي والمبعوث الخاص المجاهد بوعلام بالسايح، إلى رحمة الله وعفوه".
قال بوتفليقة أيضا "ما عساي أن أقول في ذلك النبع المتدفق بالحكمة والحنكة، بالأدب والفن، بالشعر والذوق الرفيع بالدبلوماسية المهذبة والسياسية الحكيمة، بالتجربة الطويلة والخبرة الفائقة، بالوفاء للصديق والإخلاص للوطن، بشمائل حلوة وخصال حميدة، جعلت منه رجلا عظيما عظمة المهام التي أداها على أحسن ما تؤدى المهام، والمسؤوليات التي قام بها خير قيام في كل المناصب النبيلة التي تولاها باقتدار، سفيرا لبلاده تارة وعلى رأس دبلوماسيتها مرة، ورئيس مجلسها الدستوري أخرى ورجل دولة في كل الأحوال".
بعيد عن الأضواء
وإذ ظل بالسايح بعيدا عن الأضواء، ومتحفظا في حياته، فلم يعرف عنه الخوض في المسائل العامة أمام الرأي العام ووسائل الإعلام، فإن رفيقه الرئيس بوتفليقة رثى فيه الشخصية التي تكيفت مع جميع الأوضاع، ولم يشهد لها الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، رغم التجاذبات التي نشبت بين عصب السلطة الحاكمة.
وينحدر بوعلام بالسايح من محافظة البيض بالجنوب الغربي للبلاد، التي تعد إحدى مواطن المقاومة الشعبية للاستعمار الفرنسي، حيث خاض أهالي المنطقة بقيادة الأمير عبدالقادر وبوعمامة العديد من الثورات الشعبية ضد التواجد الفرنسي، وهناك ولد الرجل في العام 1930 من عائلة مناضلة.
والتحق بصفوف جيش التحرير الوطني، بالناحية الثامنة من الولاية الخامسة مطلع عام 1957، حيث تقلد رتبة ضابط، وأسندت له مهام سامية في صفوف الثورة التحريرية، كعضوية الأمانة العامة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية، إلى جانب كونه من المؤسسين لوزارة التسليح والعلاقات العامة، التي أطلقت النواة الأولى لجهاز الاستخبارات الجزائري، رفقة قياديين آخرين كعبدالحفيظ بوصوف، ودحو ولد قابلية، وهو الجهاز الذي عرف بنجاعته وفعاليته في حماية ثورة التحرير من اختراقات الفرنسيين لصفوف الثورة.
ويعد بالسايح من الكفاءات العلمية والفكرية للجزائر المستقلة، حيث حاز على دكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية، ودرّس الأدب في الجامعة الجزائرية، كما شغل عدة مناصب دبلوماسية، حيث عيّن سفيرا للجزائر في عدة عواصم غربية وعربية، على غرار بون الألمانية، الفاتيكان، القاهرة، الكويت والرباط، قبل أن يضطلع بمهام حكومية بداية من العام 1971، حيث عين أمينا عاما لوزارة الشؤون الخارجية، ثم وزيرا للإعلام، ووزيرا للبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، ثم وزيرا للثقافة، فوزيرا للشؤون الخارجية عام 1988.
مهزوم لكن منتصر
في هذا المنصب عرفت عنه جهوده الحثيثة، ضمن اللجنة الثلاثية المتكونة من الجزائر والمغرب والمملكة العربية السعودية، المنبثقة عن القمة العربية المنعقدة بالدار البيضاء، والتي توجت باتفاق الطائف، الذي وضع حدا للحرب الأهلية والطائفية في لبنان. وعاد في العام 1997 ليشغل منصب عضو في مجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان) ضمن الثلث الرئاسي، ثم انتخب رئيسا للجنة الشؤون الخارجية بالهيئة، وفي 2005 عينه الرئيس بوتفليقة كرئيس للمجلس الدستوري.
يبقى بالسايح حالة من الحالات الشاذة التي جمعت بين الانتساب للسلطة والاهتمام بالفكر والتأليف عند جيل الثورة. فالرجل ترك العديد من الكتب والمؤلفات التاريخية والأدبية، لا سيما فيما تعلق بالثورات الشعبية، والقادة التاريخيين لتلك المقاومات، كالأمير عبدالقادر والشيخ بوعمامة، حيث ألف كتاب "من الأمير عبدالقادر إلى الإمام شامل بطل الشيشان والقوقاز"، و"من لويس فليب إلى نابليون الثالث؛ الأمير عبدالقادر، مهزوم لكن منتصر"، كما ألف المسلسل التلفزيوني التاريخي "الشيخ بوعمامة" للمخرج بن أعمر بختي، من إنتاج التلفزيون الجزائري العام 1985.
ترك بالسايح كتاب "الجزائر الجميلة والثائرة من يوغرطة إلى نوفمبر"، الذي تولى الرئيس بوتفليقة كتابة مقدمته بمناسبة عيد خمسينية الثورة في العام 2014، إلى جانب كتاب "محمد بلخير، الراية المحرّمة"، باللغتين العربية والفرنسية، وأيضاً كتاب "في جذور الأصالة، المقاومة بالسيف أو القلم"، وكتاب "عبد الله بن قريو، شاعر الأغواط والصحراء" الذي طبع في باريس باللغتين العربية والفرنسية.
وإذ يسلم الجزائريون بالاحتكام إلى قاعدة قانون الطبيعة في تسليم واستلام المشعل بين الأجيال، في ظل غياب الآليات السياسية الحديثة، فإن فَقْد النخبة الحاكمة للدبلوماسي والوزير والمثقف بالسايح كبير، ويشكل انهيارا لواحد من الأعمدة التي حملت ثقل جيل الثورة على الجزائر المستقلة، حيث لا زال التهميش والإقصاء يطاردان الكفاءات الفكرية والأكاديمية الشابة، نظير أزمة تواصل وثقة بين الأجيال.

 

عن : العرب اللندنية