د. تدمري عبد الوهاب: في تجليات عودة الدولة الي أصولها المخزنية العتيقة، وعودة المجتمع إلى موروثه الحضاري

د. تدمري عبد الوهاب: في تجليات عودة الدولة الي أصولها المخزنية العتيقة، وعودة المجتمع إلى موروثه الحضاري تدمري عبد الوهاب

عندما أستحضر ما يقع الآن في بلاد المغرب الأقصى من أحداث وصدامات تؤثث العلاقة بين السلطة المركزية والكثير من جهات الوطن، التي تشهد احتجاجات شعبية علي واقع الحكرة والتهميش الذي مورس عليها ولا يزال من طرف الدولة المخزنية، وكذا ما تتميز به هذه الاحتجاجات، خلافا لسابقاتها قبل عقد الثمانينيات، من خصوصيات جهوية يغذيها الإحساس المشترك بالانتماء إلى مجالات جغرافية متميزة  بثقافاتها وتاريخها وذاكرتها الجماعية المشتركة، أقف عند ثلاثة عناوين أساسية:

أ/ في مظاهر وتجليات العودة إلى الأصول المخزنية للدولة:

على ضوء ما نشهده من تراجعات على مستويات متعددة، يمكن القول إننا نعيش حاليا عودة الدولة المخزنية كسلطة مركزية إلى طبيعتها التقليدية، لمرحلة ما قبل الحماية، رغم ما تدعيه من حداثة ظاهرية واستهلاكية، لا تنم عن تمثيل حقيقي للحداثة كمشروع فكري وفلسفي. وهي المرحلة التي تحددت من خلالها طبيعة العلاقة التاريخية التي ميزت من جهة، السلطة المركزية بما يسمى بالهوامش (المغرب الغير النافع)، ولو بما تتصف به هذه الهوامش حاليا من اختلافات تمس الشكل دون أن تلغي جوهر العلاقة التي ربطت السلطة المركزية تاريخيا بها، والقائمة على التشكيك في ولائها للوطن، والنظر إليها من موقع الريبة والتوجس والخوف من نواياها وتحركاتها، التي تخفي تاريخا قديما يحيل علي كون الهوامش، كانت دوما محددة لتاريخ تعاقب الدول في بلاد المغرب الأقصى، مرورا بالمرابطين  والموحدين، إلخ... مع كل ما تخلل هذه العلاقة من توترات عنيفة تارة، ومن سلام على أساس اتفاقات سرعان ما يتم نقضها تارة أخرى، عندما يستقوي طرف على الآخر، تستوجب حملات تأديبية من طرف السلطة المركزية مفضية بذلك إلى اتفاقات جديدة تحافظ نسبيا، وإلى حين، على السلم الاجتماعي المفضي بالضرورة إلى استقرار الحكم المركزي   .

ومن جهة أخرى علاقة السلطة المركزية بمحيطها الجغرافي، الذي توطد سلطتها المطلقة عليه. وتتحكم في تفاصيله الدقيقة بالإكراه والريع وكل أنواع الامتيازات، بحيث تجعله خاضعا لإرادتها، ولما لا مساهما حتى في حملاتها التأديبية على من تعتبرهم خارجون عن طاعتها، عندما تقتضي الضرورة ذلك. كما كان الشأن سابقا مع انتفاضة الريف وانتفاضة الأطلس وانتفاضة أيت بعمران. و حاليا مع حملات التخوين الممارسة من طرف الأحزاب المركزية والحكومة، في حق المشاركين والمشاركات في الاحتجاجات الاخيرة، والتشهير بقياداتها، والتشكيك في ولائها للوطن وللدولة المركزية، مكررة بذلك نفس الممارسات، ونفس الاتهامات، التي طالت الكثير من جهات الوطن المنتفضة إبان مرحلة الاستقلال، لا لشيء إلا لكونها طالبت بحقها في تدبير شؤونها بنفسها، بالشكل الذي يضمن حقها في الثروة والسلطة. لكن أن تعود هذه الممارسات، ونفس العقليات بعد مرور أكثر من 60 سنة عن الاستقلال، وبعد كل ما قيل عن بناء الدولة المركزية الحديثة، فهذا يؤشر على فشل ذريع لمجمل شعارات التحديث والديمقراطية والتنمية، التي تم رفعها بعد الاستقلال وكانت سببا في قمع الكثير من الانتفاضات وفي ارتكاب الكثير من الانتهاكات بدعوى أن البلد ما زال مهددا في وحدته، ويتطلب استقرار اجتماعيا وسياسيا من أجل إنجاز هذه المهام حسب اعتقادها.

إن ما تشهده الكثير من الجهات التاريخية  بالمغرب من تصاعد لوتيرة الاحتجاجات، التي أخذت أبعادا شعبية وجماهيرية، على خلفية ما سبق وذكرناه من أسباب قوامها تنامي الإحساس بالقهرة، والتهميش السياسي والاقتصادي والثقافي، في مقابل خفوت وصمت الحواضر الكبرى التي يتشكل منها مثلث السلطة المركزية التي تستحوذ لوحدها على 48% من الدخل الضريبي العام.

كما أن هذه العودة البينة إلى الاصول المخزنية للسلطة المركزية، في مقابل التخلي عن مجمل الشعارات التي رافقت مرحلة الاستقلال، يمكن رصد تمظهراتها كذلك منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، خاصة مع بداية أجرأة سياسات التقويم الهيكلي رضوخا عند رغبة المؤسسات المالية الدولية المانحة، وما تطلبه ولا يزال من أعمال لسياسات تقشفية تمس المواطنين والمواطنات في قدرتهم المعيشية وحياتهم اليومية، الشيء الذي تطلب منها العمل وفق اختيارات اقتصادية وسياسية أمنية وليس تنموية، شكلت الهوامش، المجالات الفضلي لتطبيق سياساتها التقشفية في التشغيل والاستثمار العمومي والخاص، وحتى ما تم إنجازه من بنيات تحتية في هذه الجهات، لم يكن بهدف خلق أقطاب استثمارية واقتصادية التي تتطلب إرادة سياسية حقيقية واستراتيجية تنموية شاملة، بقدر ما أصبح يتحكم فيها منطق فك العزلة، وتسهيل عملية ولوج السلطة المركزية إليها، وتعزيز عملية ضبطها، وحتى ما أنجز كذلك من مشاريع هامة في بعض المدن الكبرى المحسوبة على جهة الشمال أو الريف كطنجة مثلا، لم يكن يندرج ضمن اختيارات استراتيجية، هدفها النهوض بالجهة وتصحيح الاختلالات الاقتصادية بين الجهات، بقدر ما أملتها الوقائع الجيو استراتيجية للمنطقة التي تقع على بعد كيلومترات من أوروبا، مما يعطيها امتيازا وقدرة أكبر علي التنافسية، وجلب الاستثمارات التي مع الأسف لم تستفد الجهة ولا ساكنتها منها، سواء من ناحية تشغيل اليد العاملة بالمنطقة التي عملت الدولة المركزية علي جلبها من فائض البطالة في الجهة الوسطي، حيث تتمركز سلطاتها، أو من ناحية عائداتها المالية التي تصب في اللوبي المالي والاقتصادي المركزي، وهو ما يفسر ما صاحب هذه المشاريع كذلك من بنيات لوجستية تهدف إلى ربطها canalisation  بمركز السلطة الاقتصادية والمالية والسياسية، من خلال انجازها لشبكة من الطرق السيارة والسكك الحديدية وحتي بمشروع القطار السريع، رغم عدم جدواه، الذي سيربط الميناء المتوسطي بمدينتي الرباط والدار البيضاء. هذا في الوقت الذي مازالت ساكنة الجهة تعاني خصاصا حادا في شبكة الطرق السليمة والآمنة في التنقل بين المدن، وفي الوقت الذي لا تتوفر فيه كذلك الجهة، رغم شساعتها، على أكثر من مئة كيلومتر من السكك الحديدية. هذا كله انسجاما ومفهومها المركزي للتنمية، القاضي بجعل الهوامش في خدمة المركز، سواء تعلق الامر بالسياسة أو بالاقتصاد، مع هاجس الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي بالجهة التي تتمركز فيها سلطاتها.

كما أن الدولة المركزية، وفي مقابل ما تنتهجه من سياسات عمومية  تقشفية اتجاه الهوامش، عمدت إلى اتخاذ إجراءات احترازية أمنية، ضابطة لأنفاس وتحركات ساكنة الحواضر الوسطي، وإجراءات أخرى اقتصادية تجاهها، بحكم كونها حاضنة لمركز السلطة من خلال إنجاز استثمارات مهمة لفائدتها من عائدات بعض القطاعات الإنتاجية الوطنية (الفوسفاط، الصيد البحري، الخ..) ومن العائدات الضريبية لعموم جهات الوطن، أو من عائدات العمال المهاجرين من العملة الصعبة، التي تعمل من خلالها، على خلق المزيد من فرص الشغل لساكنتها، وامتصاص البطالة المتزايدة لديها، حتى وإن تطلب الأمر تشغيلها في مشاريع  استثمارية خارجة مجالها الجغرافي، وهو ما أصبحت تعتبره هذه الساكنة، مع الأسف، امتيازا بالنسبة لها رغم كونه يتم على حساب حقوق ساكنة الجهات الأخرى، في التشغيل والتنمية والعيش الكريم، هذا كله من أجل تفادي الاضطرابات الاجتماعية التي قد تؤدي إلى تفكك القاعدة الاجتماعية التي يستند إليها الحكم المركزي، وحتى لا يتكرر ما حدث مع انتفاضتي العاصمة الاقتصادية والإدارية سنتي 65 و81. وهو ما يفسر إلى حد ما كذلك، عدم انخراط  ساكنة الحواضر الوسطى حاليا، في حركة الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها أو شهدتها معظم الجهات، وحتى قبلها أي منذ أواسط الثمانينات مرورا بانتفاضة 84 و90، التي شملت الكثير من الحواضر الهامشية، إضافة إلى الكثير من الحركات الاحتجاجية الشعبية المناطقية، آخرها حراك الريف وجرادة وسيدي إفني وزاكورة وخنيفرة إلخ... إنها فعلا نهاية مرحلة بكل مآسيها، وبكل احلامها وشعاراتها، رغم زيفها، وبداية مرحلة تعود بنا إلى بدايات الاستقلال، عندما طرح سؤال: أي شكل لدولة الاستقلال نريد؟ وما تخلله من انتفاضات لكثير من المناطق والجهات المهمشة، مرورا بالريف/الشمال والأطلس والجنوب، إلخ.. مطالبة بحقها في السلطة السياسية والثروة الاقتصادية.

يبدو اننا فعلا، بصدد العودة إلى بدايات البدايات، بكل ما تعنيه هذه العودة، من نهاية لمشروع استكمال بناء الدولة المركزية الحداثية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، التي كان من المفروض أن تقوم على الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين والمواطنات، وبين المناطق والجهات، الذي تغنت به الحركة الوطنية في بدايات الاستقلال وساهمت من أجله، حينها، في قمع الكثير من الانتفاضات الشعبية المطالبة بحقها من الثروة والسلطة بمبرر الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية، خاصة وأن الدولة مازالت حديثة العهد بالاستقلال، حسب اعتقادها، في مقابل إطلاق وعود، تبين زيفها حاليا، بمستقبل زاهر للبلاد سيفيض خيره على الجميع.

ب/ نهاية التوافقات السياسية السابقة وبداية الالتقاء الموضوعي بالأصولية الدينية

كما أن هذه العودة تعني عودة إلى الأصول المخزنية للدولة، ونهاية التوافقات التي نسجتها الحركة الوطنية والقصر، إبان انطلاق اتفاق "إكس ليبان"، ولكل المشاريع والشعارات الزائفة التي قامت عليها دول ما بعد الاستقلال .

إذن فهي عودة للدولة إلى جوهرها وطابعها المخزني التقليدي، رغم ما تتسم به من تمظهرات حداثية، وذلك بعد تنصلها من توافقاتها السياسية السابقة مع أقطاب الحركة الوطنية، وبعد أن أجهزت على تعبيراتها التنظيمية حتى كاد ينعدم دورها في المشهد السياسي الحالي. وهو ما يعكس كذلك مدى مسؤولية هذه الأحزاب في ما نحن عليه من أوضاع نتيجة ما أقدمت عليه من توافقات مع العرش إبان مرحلة الاستقلال، رغم ما كانت تتسم به المرحلة من اختلال لموازين القوى لصالحها، والتي تواترت فيها كل الظروف من أجل إنجاز تعاقدات اجتماعية ودستورية تؤسس لانتقال ديمقراطي حقيقي، وبعد أن بادرت بدل ذلك إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة في حق مشروعيات تاريخية مقاومة أخرى، بدواعي خيانة الوطن والعرش .

إننا فعلا نعيش مرحلة العودة إلى بدايات البدايات، وذلك بعد فشل كل محاولات دولة التوافقات في إحقاق شعاراتها التحديثية وفشل نموذجها في التنمية والديمقراطية، وعجز نخبها السياسية، بعد أن شاخت في عمرها السياسي والبيولوجي، على طرح بدائل تتطلب نقدا ذاتيا صريحا، وجرأة سياسية قوية من أجل إعادة النظر في الكثير من الأساطير المؤسسة للفكر السياسي المغربي المعاصر، التي تم بنائها في إطار التوافقات السياسية التي سبق ذكرها، برعاية تامة من طرف الدولة الاستعمارية الفرنسية قبل وبعد الاستقلال مباشرة، وهو ما يتطلب كذلك التنازل على الكثير من الامتيازات الاقتصادية والسياسية والمالية التي أمنتها هذه التوافقات لصالح العائلات الكبرى التي شكلت مع مرور الوقت لوبيات معيقة للتطور والتحديث والديمقراطية، والتي يبدو أنها مستعدة للتضحية بالدولة والمجتمع، في مقابل الحفاظ عليها ولا يهمها في ذلك العودة إلى الأصولية المخزنية، وحتى التقائها الموضوعي بالأصولية الدينية القائمة على السلفية الشرق أوسطية، بمباركة الرأسمال العالمي، إذا كان في ذلك، ضمانة لاستمرار مصالحها، واستمرار وجودها، خاصة مع ما يعيشه المجتمع كذلك من تحول فكري وثقافي في اتجاه الأخونة والدعشنة على حساب موروثنا الروحي والديني، وذلك منذ عقد الثمانينيات، وهو ما يسهل على حركات الإسلام السياسي ضبطه وتطويعه من أجل القبول بتنفيذ ما تمليه المؤسسات المالية الدولية. إنه التحول الذي ساهمت فيه الدولة بإعدامها للبرامج التعليمية التنويرية، وإلغاء مادة الفلسفة من حقل التعليم الثانوي والجامعي وتهميش شبه كلي لحاضرة القرويين، في مقابل التشجيع على البرامج التعليمية الدينية الوهابية مع رعاية خاصة لحركات الإسلام السياسي من أجل مواجهة الفكر اليساري التقدمي الذي اعتبرته خصما لها في مرحلة تاريخية معينة. إضافة إلى استفادة هذه الحركات من واقع الأزمة والهشاشة الشاملة التي تنخر جسم المجتمع المغربي، خاصة في الحواضر الكبرى، مما ساعدها في تحكمها تدريجيا في الحقل السياسي عبر تأسيس قاعدة انتخابية  صلبة، وفي الحقل الديني عبر ما يتيحه لها مبدأ إمارة المؤمنين من إمكانات لوجستية هائلة تمكنها من السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع. وهو ما يزيد من  توسع قاعدتها الانتخابية، التي من طبيعتها الأصولية، مناهضة أي مشروع سياسي تحديثي، بالشكل الذي يمكن أن يشكل التقاء موضوعيا ولو بمنطلقات مختلفة بين الأصولية المخزنية والأصولية الدينية. وذلك في مقابل غياب شبه كلي للنخب الثقافية والفكرية القادرة على طرح مشاريع سياسية بديلة تنموية وديمقراطية، تقطع مع الأنماط السابقة، تفكيرا وتنظيما وممارسة، وتعمل في الآن نفسه على إنقاذ الدولة والمجتمع معا مما يهددهما من أصولية مركبة قد تعصف بالجميع.

ت/ المجتمع المغربي ورحلة البحث عن أصوله التاريخية وموروثه الحضاري والثقافي

إننا بقدر ما رأيناه من عودة للدولة المخزنية إلى أصولها التقليدية، وبقدر ما شاهدناه من تباعد واتساع للهوة بينها وبين المجتمع المغربي، فإننا كذلك نسجل عودة لشرائح واسعة من المجتمع المغربي، خاصة الفئات الشابة منها، إلى أصولها التاريخية في التعامل مع الدولة المخزنية، واستنهاض مقوماتها التاريخية والحضارية الروحية والثقافية منها، التي تمكنها من مقاومة الاستبداد المخزني والأصولية الدينية المشرقية، وإعادة صياغة مطالبها المشروعة القائمة على حق الجهات التاريخية في تدبير شؤونها بما يضمن حقها في المشاركة في السلطة السياسية وحقها في التوزيع العادل للثروة والعدالة والحرية والكرامة. وهو ما يثبت أن الذاكرة الجماعية لهذه الجهات التاريخية مازالت حية وخصبة، وما زالت وفية لمطالب أجيال ما قبل وبعد الاستقلال، وقد تجلي هذا بالملموس في ما تمثله الحراك الشعبي مؤخرا، سواء بالريف أو في جهات أخرى من الوطن، من مطالب مشروعة تؤطرها رموز ثقافية وتاريخية تؤجج الإحساس بالانتماء إلى مجالات جغرافية غنية بخصوصياتها التاريخية والثقافية، وبما تختزنه من ذاكرة جماعية مشتركة مضيئة.