تدمري: في رحاب السجالات حول "الشعب الريفي" "والشعب الصحراوي" والحكم الذاتي والانفصال والجمهورية

تدمري: في رحاب السجالات حول "الشعب الريفي" "والشعب الصحراوي" والحكم الذاتي والانفصال والجمهورية د. عبد الوهاب تدمري

إن أوجه الإخفاق لما طرح من شعارات بناء دولة ما بعد الاستقلال متعددة. سواء تعلق الأمر بنموذج التنمية الذي اتبعته الدولة المركزية والذي أقر رئيس الدولة بنفسه عن فشله في خطاب افتتاح الدورة التشريعية الأخيرة، أو تعلق الأمر بالقطاعات الإدارية للدولة التي تعيش على واقع الترهل والفساد، أو بنموذج الديموقراطية التمثيلية التي أفضت إلى ما نحن عليه من ميوعة سياسية واتساع الهوة بين الدولة والمجتمع الذي فقد الثقة في مؤسساتها الدستورية والحزبية. وأصبح ارتفاع منسوب الكراهية إزائها وتدني الإحساس بالانتماء للوطن مع كل ما يمكن أن ينتج عنه من نزعات متطرفة أو حتى انفصالية تحت دواعي المطالبة بالانفصال أو الحكم الذاتي أو الجمهورية.

هذا في الوقت الذي كنا في غنى عن هذا الوضع لو تم اعتماد شكل الدولة القائم على الأوطونميات الجهوية التي تؤطر هذا الحق ضمن تعاقدات اجتماعية ودستورية داخلية تجعل من الوحدة الوطنية مفهوما طوعيا و إراديا، يتحول بمقتضاه مفهوم السيادة الوطنية إلى مفهوم مكثف لسيادات جهوية. ومن أجل المزيد من التوضيح في هذا الباب نظرا لما  تشهده الساحة الوطنية من سجال في شأن الحكم الذاتي وفي شأن الإنفصال الذي ألقي بظلاله على الكثير من المحاكمات السياسية في السنوات الأخيرة سواء تعلق الأمر بنشطاء حراك الريف أو بنشطاء حراك جهات أخرى كالصحراء مثلا. كان لابد من تبيان الفرق بين الحكم الذاتي كترجمة حرفية لكلمة الأوطونوميا، والتي تعني حصريا الحكم الذاتي الدولي، الذي ترعاه الأمم المتحدة وفق مقتضيات الفصل الحادي عشرة والفصلين 73 و74 من ميثاقها. وهو ما تحيل إليه الترجمة في القاموس السياسي العربي الذي لا يتسع  لمفهوم التعاقدات الداخلية لكونه، أي العقل السياسي العربي، هو نتيجة أنظمة توتاليتارية متعصبة للقومية العربية ومعدمة لما تختزنه مجتمعاتها من تعدد عرقي وثقافي.

وبالتالي، فإن قاموسها اللغوي لا يمكن أن يتسع لمفهوم هي في الأصل تعمل على إنكاره من خلال ما تبنته كمشروع سياسي قوامه التعصب للقومية العربية. هذا في الوقت الذي يمكن أن يشكل فيه نظام الأوطونميات بالإضافة إلى ما يحيل إليه في القانون الدولي، شكلا متقدما من أشكال أنظمة الحكم الديمقراطية التي تستند إلى القانون الدستوري الداخلي، وهذا ما يجعلني من المدافعين على أن تبقى كلمة الأوطونوميا على أصلها وعدم إخضاعها للترجمة العربية التي تحصرها في المفهوم الأممي والدولي و تفقدها معناها التعاقدي في سياق تطور الأنظمة السياسية للشعوب والدول. كما  أن القصور في الفهم، وهذا الالتباس المتعمد في المفهوم هو ما  يجعل من  يتبنون فكرة الحكم الذاتي في اصطلاحه العربي، يبتدعون ما يطلقون عليه "بالشعب الريفي" أو "الشعب الصحراوي" كتوصيفات جغرافية تتسع لشعوب كثيرة متعددة في أنسابها وحتى في أعراقها وممتدة في أصولها إلى جهات مختلفة من الوطن. وذلك في محاولة يائسة لإظهارهم  كأعراق موحدة، نقية، مضطهدة، ومتميز عن باقي المغاربة الذين يشكل الأمازيغ غالبيتهم العظمى، إن أحصينا حتى المستعربين منهم.

كل هذا من أجل استكمال الشروط والعناصر الأساسية للمطالبة بما يدعوه البعض، وهم قلة، حق الاستفادة من نظام الحكم الذاتي الدولي أو حتى الانفصال. وهو ما تم دحضه من طرف نشطاء حراك الريف، من خلال المسيرة الجماهيرية الوحدوية لتاريخ  18 مايو من سنة 2017.

لكن أن يتبنى البعض هذا المفهوم على أساس عرقي وأحادي انطلاقا من عدم رضاه على السياسات العمومية القمعية والفاشلة تنمويا و ديموقراطيا، في بلاد  كالمغرب الذي يعتبر في الأصل أمازيغيا، أرضا وشعبا. فإنهم  كمن يهرب إلى الأمام ولو أدى بهم ذلك إلى  فصل الفرع عن الأصل بما فيه من تعسف على التاريخ والجغرافيا وعلى أمازيغ المغرب عامة الذين يتشكلون من ثلاث مجموعات قبلية كبرى، لا وجود لشيء ضمنها  مثلا يسمى بـ" شعب الريف" هي: قبائل صنهاجة التي تمتد من الريف الأوسط شمالا إلى الصحراء جنوبا مرورا بالضفة الغربية للأطلس وأسسوا إحدى الدول الكبرى في المغرب الأقصى هي الدولة المرابطية وعاصمتها مراكش. ومن قبائل المصامدة التي تمتد من الريف الغربي شمالا إلى الصحراء جنوبا مرورا بالساحل الأطلسي وأسسوا الدولة البرغواطية  وعاصمتها شالة قديما والرباط حاليا كما أسسوا كذلك الدولة الموحدية. ومن قبائل زناتة وتمتد من الريف الشرقي شمالا إلى حدود الصحراء جنوبا وأسسوا الدولة المرينية  وعاصمتها فاس أولا وبعدها الرباط أو شالة حيث توجد قبور سلاطينهم. وبالتالي فإن القول بالشعب الريفي هو تنكر الفرع لأصله وجذعه سواء تعلق الأمر بالريف اللسني نسبة إلى من هم لا زالوا ناطقين بالريفية حاليا المتواجدين بمنطقة الريف الأوسط والشرقي والذين  يتم بترهم عن امتداداتهم سواء كصنهاجيين أو زناتيين الذين يمتدون إلى حدود الصحراء جنوبا كما يتعسفون في نفس الآن على باقي أمازيغ بلاد الريف المستعربين كجبالة حاليا الذين ينتمون إلى مجموعة قبائل المصامدة المتواجدين بالريف الغربي. كما يتعسفون على التاريخ المشترك لبلاد الريف كما وردت عند ابن خلدون وليون الإفريقي التي تتشكل من كل هذه المجموعات القبلية الأمازيغية المختلفة بما فيها المستعربة التي راكمت لقرون من الزمن إرثا نضاليا وحضاريا مشتركا، وتشكلت ككيان وشخصية معنوية متميزة حتى قبل مرحلة انطلاق الحركات الجهادية مع بداية القرن السادس عشر وحتى عهد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي استفاد من هذا التاريخ المشترك من أجل توحيد أكثر من 60 قبيلة في مواجهة القوى الاستعمارية في الوقت الذي لم تتجاوز القبائل الناطقة بالأمازيغية في هذا التحالف نسبة الثلاثين بالمائة.

إنه فعلا تعسف على التاريخ والجغرافيا والإرث الحضاري المشترك لعموم بلاد الريف التي تتشكل من مجموعات قبلية أمازيغية مختلفة في أنسابها وأعراقها إضافة إلى باقي المكونات الأخرى من والوندال والعرب والموريسكيين التي انصهرت في النسيج الحضاري والاجتماعي والثقافي لبلاد الريف كبلاد انفتحت تاريخيا على مختلف حضارات البحر الأبيض المتوسط. لذا فاني أعتبر أن ما يتم تسميته بـ "شعب الريف" هو تمييز و تعسف يمارس في حق أمازيغ بلاد الريف وكل أمازيغ بلاد المغرب الذين يتم تقطيع أوصالهم و إظهارهم كأقليات عرقية مختلفة، في الوقت الذي يشهد فيه تاريخ المغرب على عكس ذلك، وهو كذلك تجني على كل مكونات بلاد الريف الأخرى، بما فيها المستعربون من قبائل المصامدة في الريف الغربي، ومن قبائل صنهاجة في الريف الأوسط، ومن بعض الأقليات العربية والموريسكية، وعلى كل تاريخ وجغرافيا بلاد المغرب. وهو ما ينطبق كذلك على ما يسمى بالشعب الصحراوي ولو بخصوصيات مختلفة.

بالتالي فإن أي تبني لفهم من هذا القبيل من طرف البعض، أما ينم عن جهل عميق، اويت بشكل مقصود بهدف الاستيلاد القصري لعنصر مغلوط، لكنه ضروري لبناء كيان سياسي  وهمي، سواء باسم الحكم الذاتي أو باسم الجمهورية، مبتور عن محيطه الجغرافي وعمقه التاريخي يفتقر إلى أدنى مقومات وشروط الحياة في زمن تتكتل فيه للدول والمجتمعات.

لذا فإني ممن يتبنون مفهوم الشعب المغربي، بهويته الأمازيغية و بتعدد ثقافاته والسنته، وبجهاته التاريخية الغنية بخصوصياتها السوسيو ثقافية والحضارية، التي من حقها تسيير شؤونها بنفسها.

نظرا لكل ما سبق فإني أتفادى دوما استعمال مصطلح الحكم الذاتي في تحليلاتي السياسية، نظرا لبؤس القاموس السياسي العربي الذي يعكس بؤس وتخلف الأنظمة السياسية العربية، وبالتالي افضل دائما استعمال مصطلح الأوطونوميات بالمعنى الأصلي والواسع للكلمة، الذي يأتي في إطار تطور الدول والمجتمعات وأنظمة حكمها عبر تعاقدات اجتماعية ودستورية من أجل الرقي بالعملية التنموية والديمقراطية ومن أجل الانتقال بشكل الدولة، من الدولة المركزية إلى المركبة أو الفدرالية.