نسر كاسر يأسر الأستاذ ميلود العضراوي بمنطقة "سبت كَزولة"

نسر كاسر يأسر الأستاذ ميلود العضراوي بمنطقة "سبت كَزولة" الأستاذ ميلود العضراوي، والنسر المشتبه فيه

يقال بأن الثقافة هي ما نتذكره حين ننسى كل شيء، خاصة لما يسوق القدر إشارة ملهمة قد تكون بسيطة إنما لها من القدرة على تفجير ما لا يتوقع من مخزونات الركن النشيط من الذاكرة. وهذا، ربما، ما حصل مع الأستاذ الجامعي، ميلود العضراوي، وهو يتلقى هدية صديق له يدعى مصطفى القديوي من منطقة "سبت جزولة" القريبة من مدينة آسفي، عبارة صورة نسر. إذ تحدت الأخيرة اعتبارها الظاهري لتحرض العضراوي على تدفق سيل مما وجد له محلا في أن يكون أهلا لوحدة الموضوع، وجاد، على خلفية ذلك، بهذه السطور:

"هذه الصورة الجميلة للنسر الذهبي الكبير أهداها لي أحد الأصدقاء من سبت جزولة. وحين تأملتها نسج الخيال والذكرى هذه الترنيمة الجميلة من الحروف والكلمات.

هذا النسر الذي يقف أمام الكاميرا شامخا ينظر إلى من حوله نظرة متفحصة مستكشفة غير متوجسة أو خائفة، هو طائر كريم الأصل وسامي العواطف، مخلوق نبيل وشامخ.موطنه الشقوق العميقة للجبال البيضاء المكللة بالثلوج يقيم في قممها الشاهقة ويربي أطفاله هناك ويحميهم ويلقنهم الشهامة والشجاعة والمروءة والبأس. يجاور الريح ويعاشرها ولا يخاف العواصف ولا الكائنات الأخرى، لأنها جميعها تعيش تحت أرجلة وتتطلع لقامته الشاهقة وتتفرس في ظله أجنحته الممتدة على الأرض وهو يحلق في أعلى العالي.

هذا الكائن ملكي الروح وسامي العواطف وعالي الهمة، طائر نبيل حر في سلوكياته وتصرفاته، يمتلك شخصية قوية ومميزات فريدة من نوعها لا تتوفر في كثير من الطيور الجارحة من فصيلته وينظر إلى من حوله نظرة الاحترام والتقدير لأنه يدرك جيدا أن هذا العالم الذي حوله جاء برمته ليسعده ويدخل الفرحة على قلبه ويملئ جوانحه بالمرح الغامر. البراري الشاسعة التي تمتد أمامه رأي العين تؤثثها الغابات السامقة ذات الظلال الكثيفة حينا وتنبسط على أديمها الرمال الصفراء والكثبان الملساء المتنقلة من مكان إلى مكان وتعوي فيها الريح عواء الذئاب الجريحة ولا يعمرها كائن أو تمشي فيها قدم. حين يتأمل النسر الملكي القادم من الشمال كل تلك الأشياء يقول في نفسه؛ إن الله لم يخلقني عبثا وأنا لم أجئ إلى هذا العالم سدى.

حين مثلت الصورة الباسقة الطلعة لمخلوق كريم الشمائل يضم أجنحته إليه ويقف يتأمل الجبل أمامه ينسج الربيع على مساحاته الجرداء بساطا أخصر مزركش بالألوان، تذكرت إشراقته ذات مرة على غصن الشجرة الكريمة التي كانت تقف على ضريح "سيد الكامل" وتضع على الأرض غطاء مشحونا بالظل حيث تأتي قطعان الغنم كلها لتستريح في باحتها الفيحاء ويتسلق الرعاة جذوعها الممتلئة بالنسغ ويجلسون ليترنموا بالناعيات والألحان الشجية التي كلما ذكرتها تمزقت أوراق الياسمين في روحي وتبللت بقطر الدمع حسرة الماضي الذي أبق ولن يعود.

تذكرت النسر الصغير الجالس على حافة "المطفية" حيث ما يزال نقع الماء المتقطر من الدلاء يحفر أجباحا صغيرة من الماء ترتوي منها الطيور والهوام والمخلوقات الصغيرة التي بلغ منها العطش مبلغا شديدا، وكان الطائر الذهبي الذي يحوم بصغر حجمه في هذا الفضاء الطلق الجميل يتأمل كل الكائنات التي تعيش إلى جواره وهي متسالمة متآخية غير متعادية أو متظالمة ويشعر بالفخر والمحبة. تذكر النسر الذهبي هذه الذكرى العزيزة على قلبه ونفش ريشه حتى برزت عضلاته المفتولة وكتم دمعة كادت تسيح. تذكر حين كان صغيرا ينمو الريش على لحمه الطري ولا تبرز أظافره ومخالبه الحادة سوى حين يكون في حاجة إليها ويستعملها كأصابع طيعة وحنونة غير مؤدية حين تكون الحاجة ماسة إلى ذلك.

شب النسر الذهبي الصغير وكبر عن التوق وحين برزت مقلته الزرقاء الجميلة وانبسط السهل الجميل أمامه يجلس ممتدا تحت "جبل الشمس" كما سماه "مرمول" في رحلته العجيبة، سهل واسع ممتع خصب ومعطاء تتسابق الخيول فيه صيفا وتجر ثيران الحرث فيه خريفا المحاريث الخشبية الثقيلة، تشق الأرض وتزرع الزرع وتنتظر هطل السماء.

قال النسر الذهبي الشاب لنفسه؛ ما أوسع العالم وما أجمله وأنا جالس هنا وحدي ؟ حلق في نصف استدارة موحية تحت سفح الجبل بين مضارب "الرحاحلة" و"العضروة" و"الكرعان" وزاوية "الشيخ عبد القادر"، حتى برزت أمامه سماء "جزولة" الزرقاء و"فرفارة" البئر الشاهقة تحاور الريح والريح تحاورها ويصعد الماء الطاهر الزكي من بين ترائب الأرض وصلب الحجارة..

ما أطيب مياه آبار جزولة وما ألذ الشاي الذي كان يعد بتلك المياه. يقال إن المجاهد الشيخ سيدي ماء العينين رحمه الله، حفر تلك الآبار بعد عودته من حركته في ربوع الحوز ضد فرنسا، ولست أدري لو بعث يوما الشيخ ماء العينين وزار جزولة وتفقد أباره العظيمة ووجدها على تلك الحال التي هي عليه، ماذا كان سيقول؟ بل ماذا كان سيفعل ؟

ترك النسر هذه الهواجس جانبا وألقى نظرة حزينة على الأماكن وعلم علم اليقين أنه مسافر لزمن طويل لا محالة،وأنه سيشتاق إلى بلده طويلا، فتزود في ذاكرته ببغض الزاد، كانت مرحلة الطفولة التي قضاها تلميذا نجيبا متفوقا في مدرسة "عبد الخالق الطريس"، هي أبرزها وأقواها وأكثرها حضورا في ذاكرته، تذكر جيدا آن مدير المدرسة الفرنسي الجنسية المغربي المولد "موسيو كاستيلي"، كان يقف بنفسه ليشرف على سلامة المطعم الصغير في قلب المدرسة. تأمل جيدا ونظر إلى السوق الذي كانت تملؤه الإنعام كل فجر من نهاية الأسبوع (السبت) ويكتظ به الناس وتعمه الخيرات من كل صنف، تغيرت كثيرا ملامحه الأصيلة..استدار النسر الملكي الشاب مرة ثانية في فضاء جزولة محلقا في نصف دورة مودعة قبل أن يطير بعيدا نحو الشمال، .. رمق عشه القديم من شجرة الزيتون العملاقة فوق ضريح"سيد الكامل" تبدده الريح ببطء فحزن لذلك وانزلقت من مقلته دمعة مكابرة وحزينة.

مرت أربعون سنة اختفى النسر الذهبي الجميل وكأنه لم يعد له أثر. وفي مساء ربيعي جميل عندما كان القديوي -وهو رجل طيب من دوار قريب من سبت جزولة - ، جالسا في باحة بيته، يملئ كأسه الثاني من الشاي ويعد السبسي ليوقد فيه النار وينفث منه دخانا متلاحقا يعيد ترتيب الأوراق التالفة في دماغه، تأمل ظلا يمرق على البسيطة من أمام عينية مروق السهم العابر، مضي الظل مرة أخرى ثم عاد، فأفاق الرجل من غفوته وكأنه كان يحلم وتأمل السماء، لقد كان الظل لطائر فارع الطلعة يحلق في الأعالي وينظر إلى أسفل بعينين مريبتين وكأنه يبحث عن فرائس محتملة تملئ الفضاء وتلوث المكان. فشعر بثقل المسؤولية نحو ذلك لأن وظيفته في الحياة هي التطهير وخلق التوازن بين العناصر في الطبيعة وفي المجتمع.

تلك الليلة خرج الأطفال في شوارع مدينة سبت جزولة يهللون فرحا بعودة النسر ويصرخون في كل مكان؛... لقد عاد النسر، لقد عاد النسر...وفيما كن الأطفال يهتفون بمرح طفولي، كانت باقي النسور تأتي تباعا... لقد خرج عش النسر الذهبي من بيضه وغطى سماء المدينة. فيما كانت الجردان والسنانير البرية تغادر جحورها نحو أماكن مجهولة.".