كثير منا يركز على الولاية التشريعية وحصيلة الحكومة ، وعلى الخصوص رئيسها المعين من الحزب الذي رتب الأول في الاقتراع ، في حين أن المطلوب هو تقييم مفعول الدستور ومدى تأثير الروح التي سادت مطالب الحراك الفبرايري ، خاصة مطلب الملكية البرلمانية كحل انتقالي لتجاوز الوضع السياسي المأزوم ، والذي يعود السبب فيه الى عدم المأسسة وعدم المصداقية لانعدام الثقة ، فما يسمى باالديموقراطية التمثيلية ، بمعناها الفني والدرامي، لم تستطع تأطير الصراع مؤسساتيا ، الشيء الذي جعل المعارضة الحقيقية تكون في الفضاء العمومي المفتوح ، اي في الحقل الاجتماعي لا في المجال السياسي المغلق .
لربما حصل استيلاب عارض لدى بعض مهندسي العقل الأمني بكون تحولات قد حصلت في ظل الملكية التنفيذية ، وبالتالي لا حاجة إلى ملكية برلمانية قد تشوش على أي ضبط ، والحال أن الضبط الذي لا يخضع نفسه لرقابة السلطات المعنوية المضادة يؤكد فرضية وجود إرادة قمينة تتحكم وحدها في تأويل مقتضيات قانونية مجازية وأخرى دستورية على الورق ، فكل البياضات توحي بامكانية إعادة انتاج الماضي بوصايته التاريخية وأبويته المستندة للشرعية الدينية وفي نفس الوقت مشروط صمودها بحمايات افتراضية مستمدة من الولاء للخارج ، فكيف لهذا العقل الأمني أن يتجاهل بأن التحكم لن يزيد سوى مزيد من تبعية الحقل السياسي الوطني للحقل المالي والاقتصادي المحلي والدولي أيضا ، مادام عنوان التعاقد الكمبرادوري لا يخرج عن الوساطة أو العمالة في أحسن الأحوال.
وقد أكد التاريخ على أن ثنائية المخزن المركزي والسيبة في الهوامش والمحيط ، كانت لها الدور السلبي على الوضع الاعتباري للمؤسسة السلطانية ، ولا أحد يمكنه ان ينكر الاختراق الذي حصل والخيانات التي تفرخت عن الوساطات ، باعتبار أن الوساطة لم تكن فقط مالية أو استشارية معرفية إدارية أو فنية عسكرية ، وانما عبر مقدمي الخدمات والسخرات في إطار الفتوى والدفاع والأمن ، توجت بالاندماج التدريجي في دواليب الدولة ، ولعل مراجعة قرائية عابرة للتوترات والانتفاضات التي وقعت في المغرب لتبين بأن « الصهد » من الداخل ، لذلك فإن سؤال الثقة يطرح نفسه بالحاح ، بدليل أن جهات معينة تشتغل من نفس العقل الأمني ، وإن من زاوية معينة أكثر عقلانية ، تقدم الاستشارة لمن يجب من باب التنبيه والنقد الذاتي المنتج والمفيد للمصلحة ، فهي تحاول أن ترصد المواقف الرصينة وتنقلها بكل أمانة ، طبقا لقاعدة « من يحب شخصا ما ، عليه أن يقول له الحقيقة ً» ، فالانتهازية مرض فتاك ومعدي ، ينتقل مع حامله ، وليس كل من يفتح دكانا تجاريا أو تجاريا ، هو بالضرورة يبتغي مصلحة الوطن أو النظام حتى ، لأن النضال ليس وظيفة يلبسها المرتزقون والمستبيحون لكل ما هو غير مشروع ، فهم هؤلاء هو تملك مساطر وقنوات حيازة المنفعة والسلطة بأقل تكلفة أو بدونها حتى .
من هنا لا يكفي تبجح البعض بصناعة الوهم وابتداع جهاز مفاهيمي جديد ، الذي هو من مهمة المختصين الذين لا تخلو صدورهم من حب للوطن وغيرة على سلامته ، اما اختلاق معركة خدام الدولة ضد خدام الوطن فهي كالشجرة التي يحاولون بها ، عبثا، إخفاء إشكالية الولاء والانتماء المؤسساتي ، لان هناك ارادة قوية للاعتراف بالفساد من اجل الإقرار الضمني بشرعنة الاستبداد ، وكل هذه الأشكال من الصراعات الفوقية المفتعلة تهدف في اخر التحليل إلى طمس سؤال دمقرطة التعاقد حول الثروة والقوة العمومية ، طبقا للوعد بمفهوم جديد للسلطة يؤطره المفهوم الجديد للعدل ، والذي ليس سوى اعتراف بالآخرين ، أي المعارضة الناشئة في قلب الوطن وفي ثنايا اختلالات العدالة الاجتماعية والأمن الإنساني ، وهي التزامات تشكل العمود الفقري لرجال ونساء العهد الجديد ، وهي تتبلور في شكل آليات للتعاقد بين الدولة والمجتمع ، حيث لكل طرف تعبيراته الثقافية والسياسية ، لأن الفراغ العميق والفاصل بين الحقلين الاجتماعي والثقافي والحقل السياسي ، هو الذي يكرس مفاهيم كالمغرب العميق تجاه الدولة العميقة ، ومفهوم دولة المجتمع عوض مجتمع الدولة ، ورعايا الآيالة بدل مواطني الوطن ، و خدام النظام السياسي عوض موظفي الدولة . ومادام الفساد قناع لكل نزعات الاستبداد ، فإعمال آليات نقد الذاتي والرقابة الذاتية أولى ، لأن انتهاك العرض يبتدأ من انتزاع حيازة الأرض.