أيا كان الانقلاب الأخير في تركيا، و سواء كان حقيقيا أو مُفَبركا حسب ما أصبحت تتداوله بعض وسائل الإعلام بعد ساعات قليلة فقط من إعلان فشله، لكن ما بقي مهما منه هو الخروج السلمي و الواعي للشعب التركي ليحتج على الشرعية الديمقراطية التي أرادت العقلية العسكرية الدوس عليها من جديد بحذاءها الأسود الهدام.
لا يهمنا كذلك ان يكون أردوغان علمانيا أو إخوانيا، أن يصلي أو يصوم، أو أن تكون زوجته متحجبة أم لا، فتلك أمور تعبدية شخصية، ما يهمنا منه أكثر هو ما قدمه لشعبه من رفاه اقتصادي طيلة مدة حكم ولايته، رفاه كان نتيجة طبيعية لخبرته السياسية والاقتصادية الطويلة التي قضاها كعمدة متمرس لإحدى أكبر المدن في العالم، رفاه كان سببا طبيعيا كذلك لاصطفاف الشعب الى جنبه و مواجهته بأيد عارية لدبابات الانقلاب، إنه بكل بساطة رد للجميل من شعب متعلم و مُتَخلَّق الى رئيس حكومة عرف كيف يوجه دفة الاقتصاد إلى تحقيق أفضل معدل للنمو.
لكنه من وراء كل هذه الروعة الهادئة والسلمية و المسارعة في الخروج الى الشارع للصراخ و الاحتجاج، كانت تقف في صمت وبشموخ، منظومة تعليمية تركية ناجحة هي من جعلت هذا الشعب الذي غادرته الأمية والجهل منذ عقود، يكتفي فقط برفع الاعلام الوطنية دون تكسير أي شيئ، فعلى عكس ما يحدث في البلدان المتخلفة التي يسود فيها الجهل و الأمية، وهو غالبا جهل مُمَنهَج ترعاه بعناية خبيثة أنظمتها الحاكمة لضمان استمرارها، لم نر أي هجوم على مؤسسات الدولة و المتاجر لنهبها وسرقتها كما يحدث عادة عقب الانقلابات التي تجري في دول جنوب الصحراء أو كما ما جرى الى حد ما مثلا عقب الإطاحة بنظام القذافي، لقد خرج الأتراك و أغلبهم كان دون الثلاثين أي في أوج قوتهم الجسدية، مكتفين فقط برقع رايات بلادهم الحمراء، لقد منعهم من إتيان مثل هذه التصرفات الهمجية اللصيقة بالشعوب الجاهلة المتخلفة والتي كانوا بكل تأكيد يستطيعونها، ما تلقوه لسنوات من تعليم فرضه عليهم القانون الجنائي لوطنهم ، فبعد أن لقنتهم مدارسهم المجانية التي لا يغيب عنها معلموها وأساتذتها حتى ولو كانت على تقع رؤوس الجبال، القراءة والكتابة واللغات ومختلف أنواع العلوم التي يتطلبها العصر والتقدم إلى الأمام ، فقد لقنتهم كذلك أن المحافظة على الوطن هو من أوجب الواجبات وأن كل ما تم إنجازه وبناؤه على أرضه هو "تراث "يجب الافتخار به و المحافظة عليه حتى ولو كان تشييده تم البارحة فقط .
الكثير من المتتبعين لاحظ الكم الهائل من الأعلام التركية الحمراء التي أخرجها أحفاد العثمانيين فجأة للاحتجاج بها في الشوارع، لقد بدا جليا أن كل مواطن تركي كان يحتفظ بعلم بلاده في منزله، يُخرجه للاحتفال بأعياد الوطن أو عندما تتطلبه ظروف تهدد مستقبله السياسي أو الاقتصادي ، مثل هذه الظاهرة الجميلة سبق أن لاحظتها عند زيارتي ذات سنة لبلجيكا حيث صادفت بعض أيام عطلتي التي قضيتها هناك عيدها الوطني، ولقد راقني كثيرا منظر الغالبية العظمى من النوافذ والشرفات المنزلية مزينة بأعلام هذه الدولة الديمقراطية المخططة باللون الأحمر و الأصفر والأسود، فالجميع هنا يحتفل بالوطن وليس السلطات الحاكمة فقط، بالنسبة لي بدت هذه المنازل والشقق المزينة بالأعلام والتي يقيم فيها ويسكنها مواطنون عاديون كإدارات أو مقاطعات عمومية.
هذه الظاهرة لاحظتها بشكل أكثر تعبيرا في مدن إسبانيا السياحية المطلة على البحر و التي تعرف وفود الشباب من مختلف دول أوربا لقضاء عطلة الصيف، حيث يعمد هؤلاء الى نصب علم بلادهم على شرفة أو نافذة غرفة الفندق الذي يقيمون فيه ، ليحولوا واجهته الى رمز لأوربا مصغرة، و يبقى الامر الأكثر لفتا للانتباه ، هو انه رغم أن معظم هذا الشباب يقضي سحابة يومه في المرح على الشاطئ وتناول الكحول طوال الليل و النهار ، فلا تحدث أي عربدة أو شجار أو عنف بينهم ، كما أنه من المستحيل أن تصادف حادثة سير رغم أن مثل هذه الأماكن تكون مكتظة بالسيارات بمختلف اللوحات الترقيمية القادمة من جميع أنحاء أوربا تقريبا، كما انه فضلا عن ذلك ،الفتيات لا يتعرضن لأي تحرش جنسي أو معاكسة بليدة رغم أن أغلبهن يكن في أقصى عريهن .
وسواء في تركيا أو باقي أوربا الديمقراطية التي تعتبر خير من يمتثل للامر القرآني الاول و الذي هو " اقرأ"، يبقى التعليم وسيادة و الاحترام الاخلاقي للقانون المصنوع فعلا من شعب متعلم و واعي، هما المحركان الأساسيان للنمو و التقدم ، فالتعليم الجيد هو الذي يقدم و يُهدي للدولة مواطنين جيدين ،و الذين سواء عملوا في قِمة هرم الدولة أو قاعدتها ، و سواء كانوا وزراء أو برلمانيون أو مدراء شركات أو مؤسسات أو جنرالات في الجيش ، و سواء كانوا عمال مياومين أو موظفي إدارات أو شرطة في الشوارع و عسكر في التخوم ، فإنهم جميعا سيقدمون للوطن أفضل ما عندهم من كفاءات علمية و عملية ، كل بحسب اختصاصه ، كفاءات ستصب بكل جزم في تحريك عجلة الاقتصاد نحو الافضل و هي الرغبة التي تحدوهم جميعا .
التعليم الجيد كذلك هو الذي يمنح قضاة جيدين لا يفسرون القانون بهواهم أويهوى الوزارة الوصية عليهم ، قضاة يفسرون القانون بحسب ما تقتضيه قواعد العدالة و منطق الواقع ، قضاة ليس همهم فقط هو اللهث وراء المناصب القضائية الرفيعة و ترقية مراكزهم و رتبهم و درجتهم المادية بل التطبيق العادل للقواعد القانونية التي صوت عليها الشعب المتعلم بواسطة منتخبيه الواعين المتعلمين ، قضاة شجعان غير جبناء ، لا يلتفون على العدالة أو يراوغونها لإرضاء أولياء نعمتهم و رؤساءهم بل يصنعونها بقراراتهم الجريئة الفاصلة بين الحق و الباطل ، بين ما هو قانون و بينما هو فوضى و استبداد و تحكم .
التعليم الجيد هو من يصنع كل هذا ، هو وحده دون غيره الملاذ الاخير للمحافظة على ما تم إنجازه على أرض الوطن و هو المعول عليه لما سيتم إنجازه و تشييده و بناؤه في المستقبل ، هو الأستاذ الوحيد الذي يُبَلغ و يُدَرس للتلاميذ و الطلاب حب الوطن و المحافظة عليه و مفهوم الديمقراطية و الرسالة البشرية الخالدة لحقوق الانسان ، هو الحصن الحصين و الاخير للأمم التي تريد الحفاظ على مجدها و تاريخها من الاندثار و التي تريد كذلك البحث لها عن موطئ قدم بين الامم العظيمة التي تريد أن تقدم شيئا للبشرية ، لذلك فإن كل من يسعى الى تدميره أو إفشاله فإنما هو في حقيقة الامر يسعى لتدمير نفسه و ووطنه عاجلا أم آجلا و على جميع المستويات ، فاحتجاج شعب متعلم إن حدث يبقى في جميع الاحوال أفضل بآلاف المرات من احتجاج أو ثورة شعب جاهل و متخلف بل إنه لا مجال إطلاقا حتى للمقارنة بينهما .