تعتبر حكومة عبد الإله بنكيران (2012ـ 2016) من أكثر حكومات المغرب تميزا قياسا لسابقاتها، بالنظر إلى سياق تركيبها المرتبط بتداعيات «الربيع العربي»، وإلى طبيعة الصلاحيات التي خولها إياها دستور 2011. ومع ذلك فهي أيضا الأكثر تميزا في درجات الإجهاز على مكتسبات الشعب المغربي، وفي الوفاء لمنطق التوازنات المالية التي تعني أن يؤدي المواطن المغربي البسيط وحده فاتورة انهيار الوضع الاجتماعي، وضريبة التصدعات التي مست الكادحين والطبقة الوسطى على حد سواء.
إذ تأملنا طبيعة الحكومات التي تعاقبت على الشأن التنفيذي الوطني منذ استقلال المغرب، فسنجد أن بالإمكان الحديث عن أجيال «حكومية» يرتبط كل واحد منها بظروف النشأة، وبطبيعة الاختيارات المتبعة، وبتعقد العلاقات بين السلط الحاكمة في كل مرحلة من مراحل تطورنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في هذا الإطار تعتبر حكومتا مبارك البكاي وحكومة أحمد بلافريج (1955-1956) جيل التأسيس الذي باشر الشأن التنفيذي في السنوات الأولى للاستقلال. وقد انطبع هذا الجيل بمخاضات الحركة الوطنية، وبروز حدة التنازع بين هذه الحركة والمؤسسة الملكية الذي تم التعبير عنه لاحقا بإجهاض حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1960، وبتولي ولي العهد آنذاك (المرحوم الحسن الثاني) دفة التسيير الحكومي شخصيا ابتداء من مكارس 1961، حيث تأسس الجيل الثاني منذ ذلك التاريخ، مستمرا إلى سنة 1998. كان الحسن الثاني، خلال كل سنوات حكمه يزاوج بين سلطاته الدستورية كملك للبلاد، وسلطات الجهاز التنفيذي حيث تم الاستفراد بالحكم، ضدا على كل نداءات الإصلاح التي صاغتها الأحزاب الوطنية والديمقراطية. وكانت نتيجة ذلك أن اعترف الحكم نفسه بمخاطر «السكتة القلبية» التي كانت تتهدد البلاد. وعلى خلفيتها تأسس الجيل الثالث المعبر عنها بـ «التناوب التوافقي» الذي قاده عبد الرحمان اليوسفي من سنة 1998 إلى 2002 ليتم إجهاض التجربة، وتعطيل الانتقال الديموقراطي، ودخول البلاد قاعة الانتظار عبر الحكومتين اللاحقتين (برئاسة إدريس جطو وعباس الفاسي)، وصولا إلى الجيل الرابع بإدارة عبد الإله بنكيرن. وإذا كانت كل «حكومات الحسن الثاني» السابقة على التناوب غير محاطة موضوعيا بآمال وانتظارات المواطنين، نظرا لارتباطها بتدابير القبضة الحديدية وبسنوات الرصاص، وبالصراع الدائم حول الشرعية رغم بعض الانفتاح النسبي في الأخير، وإذا كانت حكومة اليوسفي قد فجرت الأمل ثم أقبرته بعد الردة السياسية لعام 2002 والتخلي عن مبدإ «المنهجية الديمقراطية»، فإن تشكيل الحكومة الحالية قد أعاد تفجير الآمال مجددا اعتبارا لارتباطها بالتحولات الكبرى التي شهدها المغرب والعالم العربي عام 2011، وما ترتب عن ذلك من تعديلات دستورية شاملة أقرت نظريا مأسسة رئاسة الحكومة، وتمتيعيها بصلاحيات دستورية واسعة. وقد تغذى ذلك التشكيل بالشعارات الكبرى التي حملها البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، والذي تبوأ صدارة المشهد الحكومي مستثمرا «طهرانية» خاصة لعدم تورطه سابقا في التسيير الحكومي، ولترويجه لخطاب ديني شعبوي يبشر بمحاربة الفساد ومنطق الريع، وإقرار التكافل الاجتماعي والتوزيع العادل للثروات.
لكن الذي حدث منذ انطلاق التجربة إلى اليوم كان مخيبا للآمال بشكل رهيب، خائنا للوعود الانتخابية، ولكل الانتظارات. لقد كانت أول قنبلة فجرها بنكيران في أحضان الشعب إعلانه صراحة عما سماه إصلاح صندوق المقاصة، ورفع الدعم عن المواد المدعمة سابقا وهو ما يشكل سلوكا غير مسبوق في تاريخ الحكومات المتعاقبة، وهو كذلك ما يعني عودة إملاءات صندوق النقد الدولي امتثالا لمنطق مراعاة التوازنات المالية الكبرى. إنه الاختيار الاقتصادي الشرس الذي سيحكم كل الإجراءات الحكومية اللاحقة التي تستهدف القدرة الشرائية للمواطن، مقابل استقالة الدولة عن دورها الخدماتي، وتقليص النفقات العمومية وضرب الطبقة المتوسطة الضامن للاستقرار والتوازن في كل المجتمعات.
في هذا السياق نقرأ قرار الحكومة بمراجعة أنظمة التقاعد، والتلويح بتطبيق إجراءات التوظيف بـ «الكونطرا» عوض التوظيف المباشر، إضافة إلى إقرار فصل التكوين عن التوظيف، وضرب مكتسبات الأطباء الداخليين، والتهديد بضرب مكتسبات المدرسة العمومية وتجميد الزيادة في الأجور وتعطيل محرك الاقتصاد.
إنها «المنجزات» الحقيقية لحكومة بنكيران التي لم تكتف فقط بخيانة أفق انتظار المواطنين. كما لم تكتف بخيانة مضامين الدستور، ولكنها صارت تضرب في الصميم حق المواطن البسيط في العيش ولو بسقف أدنى.
الخطير كذلك أن مسلسل التدمير الذي تقوده الحكومة الحالية يأتي في شرط سياسي غير مسبوق. فلقد كانت الحكومات السابقة تواجه دائما بمعارضة شديدة من الأحزاب والنقابات والنخب المدنية والفكرية. أما اليوم فالتدمير يتم في غياب المعارضة الحقيقية بدليل أن كل الإجراءات اللاشعبية المتخذة إلى حدود الآن من طرف حكومة بنكيران لم تجد إطارا سياسيا أو نقابيا أو مدنيا يجعلها معركته الحقيقية لإيقاف النزيف وإسناد ظهر المواطنين الذين يوجدون لأول مرة في أرض خلاء بلا سند، وبلا حكومة ولا معارضة. الأمر الذي يهدد بمآل لا أحد يتوقعه. لذلك تعتبر الحكومة الحالية لا تقف فقط ضد الشعب والدستور، ولكنها تهدد السلم الاجتماعي وتنسف فكرة الاستقرار، ومن هنا خطورة ما يقترفه بنكيران ومن معه.