مرت مائة سنة كاملة على اتفاقية سايكس بيكو المبرمة سنة 1916، التي خطت مسارا جديدا آنذاك لمنطقة الشرق الأوسط بعد أن تقاسمت بموجبها بريطانيا وفرنسا تركة الإمبراطورية العثمانية في المنطقة، فاسحة المجال بأن تتأسس على أنقاضها دولتي العراق وسوريا، وأن يتحول من بين ثناياها لبنان من مجرد مقاطعة متصرفية إلى جمهورية، وأن تنبثق عنها إمارة شرق الأردن التي غدت فيما بعد المملكة الأردنية الهاشمية.
وبعد سنة من الآن ستكمل القرن من الزمن وثيقة أخرى غيرت مجرى التاريخ في الشرق الأوسط، هي وعد بلفور المشؤوم، الذي افتتح مسلسلا ما يزال متواصلا لاغتصاب أرض فلسطين وتشكيل دولة إسرائيل عليها لتكون، كما ادعى كل مؤيدي الفكرة، ملاذا لكل يهود العالم منعا لإمكانية تكرار ما لحقهم من اضطهاد في أوروبا بلغ ذروته مع النازية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
وإذا كانت اتفاقية سايكس بيكو قد عملت على تشتيت شعوب أصيلة في المنطقة رغما عنها وحشرها في جنسيات وكيانات بيروقراطية كانت تبدو حينها غريبة عما عهدته تلك الشعوب من أعراف تبعا لاختلافاتها العرقية والقبلية والعشائرية والدينية والمذهبية، فإن وعد بلفور سعى إلى تجميع أقوام هجينة منزوعة من بيئاتها المختلفة في مجتمع واحد على أرض لا صلة لهم بها، ضدا على رغبة أهلها الأصليين وبطرد معظمهم خارجها.
وعلى عكس وعد بلفور الذي رفضه جميع العرب، فإن ثلة صغيرة فقط من المثقفين المتنورين آنذاك من القوميين وبعض الإسلاميين هي من عارضت تقسيمات سايكس بيكو ؛ بل إن النخب السياسية التي أفرزتها فترة الانتدابين الفرنسي والبريطاني على محمياتها في منطقة الهلال الخصيب استعجلت تأسيس كيانات إدارية وسياسية على الرقعة الأرضية التي خصصت لكل منها.
وقد حصل ذلك من دون أن تتأكد تلك النخب عمليا وفعليا من وجود مقومات حقيقية للمؤسسات المستحدثة التي حشرت حشرا تحت مسمى دول ؛ الأمر الذي جعلها تخوض فيما بينها ثم تغرق في نزاعات لا مبرر لها سوى إثبات الزعامة وتقاسم السلطة والنفوذ في كياناتها الجديدة الناشئة بإرادة أو مباركة استعمارية.
وبهذا الاستعجال واللهفة على السلطة أثبتت تلك النخب أن السيد هنري مكماهون المندوب السامي البريطاني على مصر سنتي 1915 و1916 كان على حق حين كتب إلى حكومة بلاده بأن العرب أقل استقرارا من الأتراك، وإذا ما جرى التعامل معهم على النحو الملائم فسيظلون في حال من الفسيفساء السياسية في إمارات صغيرة عاجزة عن التماسك.
تمخض هذا الاستعجال العربي عن انبثاق أطماع محلية انتهازية واستبدادية بنزعة عدائية لحقتها ولادة قيصرية لكيانات مستقلة شكليا هشة بنيويا بدأت في كسب الاعتراف الدولي بها كدول ذات سيادة منذ سنة 1932 بالنسبة للعراق، ومنذ سنة 1941 بالنسبة لسوريا، وسنة 1943 فيما يخص لبنان، وسنة 1945 لإمارة شرق الأردن قبل تغيير الاسم إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
ولكن ثبت مع مرور الزمن أنهذه الكيانات لم تكن قادرة على مجاراة تطورات مجتمعاتها الداخلية، ومستجدات المحيط الإقليمي الذي تتفاعل معه. وحده الأردن كان الأكثر استقرارا من بينها، رغم أنه عاش فترات رهيبة من تاريخه، ودفع أثمانا باهظة من وحدته الوطنية (معارك أيلول الأسود مع المقاومة الفلسطينية، فك الارتباط مع الضفة الغربية التي ضاعت وهي تحت سيادته ) قصد الحفاظ على كيانه، وعلى العرش الهاشمي الذي عرف لحد الآن كيف يجنب البلاد توابع الزلازل التي تعصف بالمنطقة.
ومع ذلك، فإن البعض يعزو استقرار الأردن واستتباب الأمن فيه ليس إلى ما تعرفه البلاد من حريات نسبية وتعددية سياسية والتفاف شعبي واضح حول الملكية وما تمثله من قيمة تاريخية وانتماء للنسب الشريف، وإنما إلى صرامة القبضة الأمنية، وإلى حرص العديد من القوى الدولية والإقليمية على تأمين الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي والأمني في البلاد.
وبطبيعة الحال ليس هذا هو واقع الأوضاع في لبنان المفترض أن يكون بتركيبته البشرية المتنوعة والمتنورة واحة ديمقراطية في المنطقة، ولكنه غدا دولة أصاب الشلل معظم مؤسساتها سيما رئاسة الجمهورية الشاغر مقعدها منذ أزيد من سنتين ؛ الأمر الذي جعل المواطنين ينكفئون إلى انتماءاتهم الدونية الطائفية والدينية والمذهبية يبحثون عن الدعم والمساندة، والحصول على الامتياز أو الوظيفة، متوجسين مع ذلك من إمكانية عودة أجواء الحرب الأهلية التي أدمت البلاد لمدة تزيد عن 15 سنة.
عدم الاستقرار هذا كان السمة البارزة في تاريخ كل من العراق وسوريا منذ نشأتهما، واللتين افترستهما الانقلابات العسكرية المتعاقبة منذ الإطاحة بأنظمتهما الملكية، ثم أجهزت عليهما ديكتاتورية حزب البعث العربي الاشتراكي بصيغتيه الدمشقية والبغدادية قبل أن يدخل الأخوين اللدودين في صراعات مريرة، كانت مدمرة أو مستنزفة لهما أكثر من أي طرف آخر.
لقد كشفت تلك الصراعات التي امتدت إلى حواريي كل طرف في العالم العربي أن مفاهيم القومية والوحدة العربية والاشتراكية، التي تشدقا بها طويلا كانت مجرد شعارات جوفاء تغطي استبدادا متجذرا في قياداتهما المفتونة بالتسلط، الذي جعلها ذات طبيعة استئصالية معتمدة في الحكم على عصبياتها القبلية، وانتماءاتها الطائفية والمذهبية، وعلى شراسة الأجهزة الأمنية القمعية.
وقد جاءت رياح ثورات الربيع العربي واحتجاجاته لتعري الطابع المذهبي والطائفي للنظام السوري الذي كان يبدو راسخا، وللنظام العراقي الجديد المقام بدعم أمريكي على أنقاض نظام حزب البعث ليتضح جليا أن اتفاقية سايكس بيكو مهدت الأرض لتأسيس أنظمة وليس دولا بالمفهوم الغربي للدولة. أنظمة تهاوت عند أول امتحان حقيقي واجهته بعد أن تلاشت هوامش المناورة التي كانت تسمح بالتخفي وراءها من قبل.
مقابل التسرع العربي لبناء الأنظمة على هدي فحوى اتفاقية سايكس بيكو من دون إجراء دراسات موضوعية للواقع ومعطياته بدت الحركة الصهيونية أكثر توأدة في سعيها إلى تنزيل وعد بلفور على أرض الواقع، إذ بمجرد صدوره أسست الوكالة اليهودية للهجرة، وغيرها من المنظمات الصهيونية الإجرامية كالهاغانا، مكلفة إياها بالعمل جديا لاستغلال ميزة أرض فلسطين كأسطورة جبارة، كما قال تيودور هرتزل، قادرة على بعث الحنين اليهودي وإذكاء جذوته.
ولم يكن الهدف هو الوازع الديني التوراتي، الذي لا مكان له في ثقافة إشكناز ذلك العصر، وإنما توظيفه بغية استقطاب العنصر البشري ونقله إلى أرض الميعاد، وتوفير الأرض الزراعية له لتشجيعه على البقاء عاملة بذلك على مراكمة ما أسماه يهوشفاط هركابي عناصر الأساس التي بدونها لن تنبت الدولة أو تدوم.
ولا غرابة في أن يفرز تسرع العرب أنظمة مهترئة تمحورت حول شخصية الحاكم الفرد نخرها مع مرور الزمن تفشي الفساد وطغيان الاستبداد، وفي أن تنبثق عن التأني الصهيوني المسنود من قوى عالمية كبرى دولة عصرية بالمفاهيم الغربية قوامها المؤسسات السياسية والقانونية ( إسرائيل لا دستور لها ) وديمومتها، واحترام قواعدها الديمقراطية رغم الغلو في تمييزها ضد مواطنيها العرب، وتداول السلطة فيها.
فرغم ما يشاع عن العبقرية اليهودية لم يسمح للقدرات الفردية مهما علا شأنها أن تستفرد بالسلطة، وتم استبعاد العديد منها بصناديق الاقتراع دون أن يشفع لها ماضيها الصهيوني كما حصل مع أول رئيس للوزراء دافيد بن غوريون، وكما وقع لمناحيم بيغن عراب السلام مع مصر، ناهيك عن شمعون بيريز الذي يعتبر أب القنبلة الذرية العبرية.
واستنادا على كل ما سبق لا مفاجأة على الإطلاق في أن نستنتج بعد قرن من الزمان أن إسرائيل وهي الدخيلة على المنطقة تعتبر وحدها التي لديها مقومات الدولة الحديثة فيما الأقطار العربية من حولها إما دخلت مرحلة التفكك أو مرحلة الشك في أسسها بلا بديل يتراءى في الأفق، في انتظار ما قد تجود به التفاهمات الدولية مرة أخرى على غرار ما جرى في الماضي، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد.