يقدم الأستاذ الباحث، عبد الغني السلماني، الحلقة الثانية من قراءته في الخطاب الذي يوظفه عبد الإله بنكيران بنبرة الأكاديميُّ المستقل، الذي يلفتُ إلى ما خلفهُ انحطاطُ الخطاب السياسي للفاعل السياسي من نفورٍ لدى النَّاس، بفعل تطاحن الأحزاب، في مشهدٍ لا يبشرُ بأفق يستجيب لطموحات الناس، من خلال التبشير بقيم سياسية نبيلة تعيد الأمل للجمهور في السياسية والأحزاب؛ لكن الواقع لا يرتفع .
"الخطابة والغنيمة: خطاب السيد عبد الإله بنكيران أمام شبيبة حزبه، هو توهيم كبير حول الاختلالات الخطيرة التي تهدد البناء المؤسساتي والديموقراطي في البلاد. فتعليقاته وهجوماته على حزبي "الاتحاد الاشتراكي" و"التجمع الوطني للأحرار" العمودي الفقري لبنيان حكومة سعد الدين العثماني، يجعل الفاعل والمتتبع يستنتج أن خطاب بنكيران يساهم في تقوية الفكرة النكوصية في البلاد، وزرع الفتنة السياسية المطلوبة من أجل التشكيك في إرادة البناء الديموقراطي للبلد بشكل مفضوح ضمن استراتيجية الحزب المبنية على تبادل الأدوار وتكامل الخطط من أجل التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة. لذلك المطلوب من قيادة العدالة والتنمية التحلي بالشجاعة من أجل توضيح الأمر والقطع مع ازدواجية الخطاب الذي يضعف الحكومة ويعيق مسارها التواصلي، ويعمق الهوة بين مكوناتها السياسية عبر تصريحات وبلاغات فاقدة للمعنى والمبنى.. لذلك على العثماني أن يمتلك الشجاعة السياسية للرد على بنكيران كي يعرف حدوده، لأن هذا الأخير يريد أن يجر الأغلبية الحكومية إلى معارك جانبية يتقنها بنكيران ويريد حملة انتخابية مفتوحة من أجل دغدغة مشاعر الناس واستغلال مآسيهم في المآل والاستقرار .
وهناك من يعتقد أن التوجه العام يهدف أن تسير الأمور على هذا النحو المضحك المبكي، ربما وجدوا في بنكيران ضالة الإلهاء، فاستطاب شخصية الزعيم ولو من ورق، وبديكور يٌؤسس مشاهد الإلهاء.. بالفعل إنه الزعيم الذي ضحى بكل المكتسبات، ودشن التعاقد وأوقف التوظيف ولم يربط التكوين بالشغل، ولم يكن وفيا لمحضر عشرين يوليوز والمصلح لنظام التقاعد، وغيرها من القرارات اللاشعبية التي أنهك بها الطبقات الشعبية والطبقة المتوسطة على السواء... وربما هذه الخدمة التي قدمها كان يعتقد أن التماسيح والعفاريت ستكافئه، لأنه يعرف كيف يضبط الميزان في الربح والاكتساح، يعرف كيف يشتغل مع النظام السياسي ويحدد سقف استفادته في اقتسام السلطة والجاه، هاجسه هو الاستفادة من هامش ما، حققته حركة عشرين فبراير قبل أن يسطو على شعاراتها ويخرجها من عمقها الفكري والتحرري في ظل هامش الحرية التي حصن مكتسباتها زمن النضال وواقع سنوات القمع والرصاص.. ولذلك فإن إدارة الأمور الانتخابية واستقدام حزب بلا تاريخ سياسي سوى ما راكمه من تقتيل في الجامعات وما مارسه من عنف ضد الحركة الجماهيرية في لحظة درامية وانفراج سياسي، نتيجة طبيعية وثمرة لهذا التفكير البرغماتي الذي يعرف من أين تُأكل الكتف .
لغة السياسي: ليس كل ما يقوله السياسي في التجمعات ووسائل الإعلام صحيحا، إن جمالية الكلمة واتساق النص في المُتَخيل الذي يولده، حيث المتتبع لا يحتاج لمقارنة النص بالواقع ليحكم على قيمته وصدقيته الفنية والجمالية، لذلك في الخطاب السياسي قيمته لا تكمن في ذاته، أو جمالية لغته واتساق مفرداته، بل في الرسالة التي يريد إيصالها، والتي كثيرا ما لا تكون ضمن مفردات الخطاب، بل بين سطوره أو في تأويله وفي علاقته بالواقع وقدرته على التأثير على مجريات أمور الواقع. وعليه فمن يريد فهم سياسة كيان سياسي ما، يجب البحث عن الأهداف الحقيقية للسياسة والسياسيين في مكان آخر، يبحث عنها في السياسة عندما تتحول إلى ممارسات حقيقية على أرض الواقع، السياسة بما هي تحالفات وصراعات على المصالح. السياسة بما هي توازنات طائفية وطبقية ونخبوية، الواقع هو المحك العملي للحكم على السياسة والسياسيين. فالمحلل السياسي والمتتبع للحياة السياسية المغربية ’يطلب منه اليوم أن يكون على بيّنة من المعاني والمقاصد الحقيقية والثاوية الموظفة من قِبل خَطابة الشعبوية التي يبقى زعيمها بنكيران بلا منازع.. إنها متاهات السياسة التي تستأنس بها الخطابات السلطوية، من خلال الاخفاء والتلطيف، والتجميل، والتبرير، والتشويه حسب الحالات، وذلك انطلاقا من أي تغيير وتكييف فهم ووعي المتلقي، الذي يمر عبر تكييف المفردات والتعبيرات. فاللغة تظل هي الاداة المثلى المكيفة للوعي والحاملة للمعنى، بل المحمّلة أكثر من غيرها وبكل ألوان الايديولوجيا، ومن ثم، فإن وظيفتها الاساسية ليست فقط تحقيق التواصل، كما يدعي أنصار السيد بنكيران وزبانيته، بل التبليغ والتوصيل والفوز بأصوات الناخبين وبكل الوسائل.
إنه نشيد الطغيان بأصوات القهر ومحاربة الفساد والاستبداد.. فأين نشيدنا؟ يمكن أن نستحضر هذا التحول القاسي في المشهد السياسي المغربي، وأن نعي دقة اللحظة وخطورة المرحلة حتى لا نبقى وراء الحلول السهلة التي تضمن حياة مستقرة ولو في الوهم، ونسينا ما قرأناه وما عرفناه، علينا إنتاج قناعاتنا أو إعادة إنتاجها بما يلائم الظروف الجديدة. الحزب الأغلبي لا يفكر إلا في مصلحته والتستر على قادته، إنه تيار برغماتي في كل الاتجاهات. لابد أن نعشق الحرية ونعاند الأمل واليقين لأنه الأداة التي تمنحنا لحظات سعيدة، بعيدًا عن لغة العنف ورائحة الموت وصور الجدران المتلاشية، حيث يمكن أن يموت حامل شعار الأمل، لكن الأمل لا يخبو ولا يموت".