يرى د. محمد حاتمي، أستاذ التاريخ بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، أن تشبث السلاطين العلويين بطقوس شهر رمضان له صلة وطيدة بما يسميه المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان «العادة المخزنية»، مشيرا إلى أن هذه الطقوس مؤصل لها فقهيا واجتماعيا، فهي من صلب المنظومة الكبرى المؤسسة للشرعية الروحية للإمام المبايع طوعا والمحصل للإجماع عليه، كما تندرج في منطق الاستمرارية المثبتة لسمو الإمامة الكبرى والمذهب المالكي بغاية التميز عن عوائد البلاطات الشرقية.
*ماهي أبرز دلالات تشبث ملوك العلويين بممارسة طقوس خاصة خلال شهر رمضان المبارك؟
**ثمة أمور ثلاثة يستحسن استحضارها من أجل مقارعة رصينة لموضوع تكثيف السلطان أمير المؤمنين للمبادرات الدينية والخيرية خلال شهر رمضان. أولها أن الأمر له صلة وطيدة بما يسميه المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان «العادة المخزنية»، أي أن الأمر لا يتعلق بممارسة مرتبطة بسلطان معين، بل بممارسات مؤصل لها فقهيا واجتماعيا ومترسخة هي من صلب المنظومة الكبرى المؤسسة للشرعية الروحية للإمام المبايع طوعا والمحصل للإجماع عليه وثانيها أن السلاطين العلويين لم يبتدعوا هذه الممارسات، بل هي موروثة عن الدول المغربية السابقة، ومن ثمة فهم يندرجون في منطق الاستمرارية المثبتة لسمو الإمامة الكبرى والمذهب المالكي، وفي ذلك منحى للتميز عن عوائد البلاطات الشرقية. وثالثها أن الإخباريين أولوا هذه الممارسات أهمية بالغة فدأبوا على الإشهاد عليها والتنويه بها في إطار سردهم لأخبار السلاطين وورعهم وفضلهم وكرمهم... والعادة كانت هي قراءة سفر من أسفار البخاري كل ليلة (عددها خمسة وثلاثون سفرا) وفق ترتيب ممنهج يتولى فتحه قاضي العاصمة الذي «يتولى السرد بنفسه يسرد نحو الورقتين من أول السفر ويتفاوض مع الحاضرين في المسائل (...) والسلطان في جميع ذلك جالس قريبا من حمى الحلقة قد عين لجلوسه موضع»، كما أورده الإفراني في نزهة الحادي». إن هذه المجالس هي أهم المناسبات التي يلتقي فيها السلطان بالعلماء، ويجلسون معا في وضع يجعلهم قريبين منه ومهيئين أكثر للتعامل معه من وضعهم كناصحين ومرشدين ومسؤولين... والحق أن هذه المجالس تهدف إلى تأكيد وظيفة الإمامة الكبرى وإقرار العلماء بأن السلطان هو أول المجتهدين ولا اجتهاد من دون تزكيته، وأنه رأس العاملين على نشر الدين القويم، وأنه المؤهل الطبيعي لترشيد الشأن الديني وصيانته من خلال حفظه لمصالح العلماء وتقريبهم إليه والإغداق عليهم بالرواتب والكسوة والحظوة... وفضلا عن ذلك، المجالس الرمضانية، والأساس فيها هو جمع العلماء في حضرة السلطان في قصره وبالضبط في ديوانه، تكون مناسبة للتلاقي والتطرق لمواضيع مختلفة ليس فيها خلاف، يقدمها علماء مشهود لهم بالعلم والاجتهاد يوضحون فيها ما هو مبدئي، وما هو مقاصدي... وتتم العملية وفق طرح منهجي يروم التأصيل والتنزيل والتعليل... وغني عن البيان أن استماع السلطان بصفته أميرا للمؤمنين هو بمثابة المباركة للطروحات المقدمة.
*يلاحظ تشبث الملك محمد السادس وعلى غرار أجداده الأوائل بالدروس الحسنية فماهي دلالات ذلك؟
**يجدر الإشارة إلى أن الملكية ترتكز على الاستمرارية ووجوب الوفاء للوالد والجد والأسلاف، ومن ثمة فقد وجد الملك محمد السادس نفسه منذ أول رمضان جالسا القرفصاء وأمامه جمع من العلماء. لم يكن الأمر بالجديد عليه، فقد عهد والده منذ نعومة أظفار ولي العهد على مصاحبته إلى مجالس الدروس
الحسنية، ومن دون شك أوضح له وظيفتها ومغزاها وغائيتها. وقد لاحظ المتتبعون للشأن السياسي منذ أول حصة أن الملك الجديد يسعى إلى التميز، أي إلى أن يعطي للعملية برمتها معاني جديدة ويبصم عليها ببصمته الخاصة وقد تأتى له ذلك منذ تعيين أحمد التوفيق وزيرا للشؤون الإسلامية. إن ثقافة الوزير ومعرفته بالتاريخ المغربي وإلمامه بمكنون التصوف فضلا عن خبرته في تيسير الإدارة وتدبير الأطر، أهلته إلى إعطاء الدروس تصورا جديدا وموقعتها داخل ترسانة أصيلة تسعى إلى التصدي لجميع التوجهات الدينية الطارئة، المنبثقة من الداخل أو المستوردة من الخارج.
*ما الذي تبقى من الطقوس الرمضانية في عهد الملك محمد السادس؟
**الملاحظ أن الدروس الحسنية باتت في العشر سنوات الأخيرة مؤسسة قائمة بحد ذاتها، تحظى بعناية فائقة من طرف الوزارة الوصية التي ترصد لها ميزانية مهمة، وتجند لها أطر ملمة بالتوجهات الدينية الكبرى في العالم الإسلامي، وتجتهد في استقطاب أكبر عدد من الفاعلين الدينيين الأكثرتأثيرا وطنيا وإسلامية، بل وحتى من دول وجامعات غربية، وفي ذلك تأكيد للعديد من الغايات التي رسمتها الدولة من أجل تحصين الحقل الديني المغربي. ويحرص الملك على الحديث مع جميع المدعوين في تواضع ينم عن رغبة في تقريبهم والإقرار لهم بالجميل وتشجيعهم على المضي قدما في مساعيهم. وما يثير الانتباه هو الحرص على أن تبقى المناسبة بسيطة في شكلها العام تناغما مع الفلسفة الدينية القائمة أساسا على مبدأ التواصل العفوي والرغبة في توطيد الأواصر بين الإمام والعلماء. والمهم هو أن الوزير أحمد التوفيق بصفته المسؤول الأول عن تنظيم هذه الدروس وانتقاء المحاضرين وترشيد مضامين الدروس، قد رسم خطة واضحة ومتجددة، يتكفل بالبوح بمبادئها الرئيسية خلال الدرس الحسني الافتتاحي الذي يعطيه هو نفسه. وأهم مرتكزات الخطة هي رفعة مؤسسة إمارة المؤمنين، ووجوب الارتكاز على المالكية، وسرمدية مواثيق البيعة التي تربط الرعية بالإمام، واحتكار الدولة لمهام النهي عن المنكر والأمر بالمعروف في ارتباط بواجب حماية الملة والدين، وترسخ الانتماء الوطني عند المغاربة... إنها إجمالا عناصر مؤسسة لما تعتبره الدولة الأمن الروحي للمغاربة، وهو أمن مرهون برفعة المؤسسة الملكية وفاعليتها في صيانة السلم الاجتماعي والتوافق السياسي والرقي الاقتصادي. والمؤكد هو أن محمد السادس يبدو أثناء هذه الدروس مدركا لإكراهات الإمامة الكبرى، وهذه المسالة تساعد بشكل حاسم على مقارعة القضايا الدنيوية العاجلة.
*ما هي رمزية العناية الكبيرة للملوك العلويين بنشر المصحف وتحفيظ القرآن الكريم وتنظيم المجالس العلمية، هل يخفي رغبة لديهم في توحيد القراءات القرآنية (ورش عن نافع) إلى جانب توحيد المذهب الرسمي للبلاد؟
**مما لا شك أن النظام المغربي قبل الحماية وبعدها، أي قبل أن يتشبع بالحداثة كنها وعملا، كان دائم الحرص على وحدة العقيدة. ونجد في تاريخ البلاد أمثلة كثيرة أبانت فيها الدولة عن عزيمة قوية في التصدي لكل ما من شأنه المس بما تحقق في شأنه الإجماع، وأغلبه له صلة بالشأن الديني. وبما أن البدعيين يعيرون أهمية أكثر للجزئيات بغية ضرب مصداقية الدولة ومشروعيتها في الحكم، فإن الدولة حرصت من جانبها باستمرار على ألا يمس الجزئيات أي تغيير وإن رمزي. ومن الأمثلة ذات الدلالة توحيد القراءة وشكل الصوامع والمقولات قبل صلاة الجماعة وبعدها ولباس الأئمة... إنها إجمالا ممارسات توضح بالملموس الرغبة في التميز والوفاء لمعايير محلية تراكمت على مر القرون. والمرجع الحاسم في تبني الصرامة هو المذهب المالكي الذي يعطي للإمام الحق في الضرب بقوة على يد كل من تسول له نفسه زعزعة العقيدة والمس بالإجماع.