المخرج عبد السلام كلاعي ناقدا: لن تندموا بعد مشاهدة "كابوس" أرونوفسكي "أم!"

المخرج عبد السلام كلاعي ناقدا: لن تندموا بعد مشاهدة "كابوس" أرونوفسكي "أم!" ملصق الفيلم والمخرجان عبد السلام كلاعي (يمينا) وآرونوفسكي

توقفت منذ بضعة أسابيع عن مشاهدة الأفلام الروائية، لأنني لم أعد أجد جدوى تذكر في إضاعة الوقت، وصرت مهتماً أكثر بمشاهدة الأفلام الوثائقية لإحساسي أنها تأخذني أكثر نحو الحياة في هذا الشتاء البارد الكئيب. لكنني تلقيت بالأمس مكالمة هاتفية من صديقي ومدير تصوير مسلسلي الأخير يطمئن على أحوالي لأنه كما قال لي "لم أعد أظهر لا في الواقع ولا في الواقع الافتراضي". أفرحتني مكالمته وسؤاله عني وأنهى المكالمة بسؤالي إن كنت شاهدت فيلم آرونوفسكي الأخير "أُم!". قلت بصوت خفيض ووخز بالذنب إنني لم أشاهده بعد، فقال لي إنه علي مشاهدته وهو فيلم جيد، وطلب مني أن نعود للحديث عنه، فدعوته ليمر ببلدتي ونتناول عشاءً مع بعضٍ وبعضَ نبيذٍ ونتحدث عن الفيلم، فوعدني وانتهت مكالمتنا وأنا فرحٌ لِوَعْدَيْنِ، وعد بمشاهدة ممتعة، ووعد بزيارة لواحد ممن أتمتع بالحديث معهم عن السينما.

في الليل، وبعد انتهاء أعباء يوم عادي من حياة عادية رتيبة فرضتها ظروف التجمد والاقتصادي والإبداعي الذي يعرفه البلد منذ حين، لُذْتُ بدفئ غرفتي ودخلت عالم فيلم آرونوفسكي وأنا متوجس لأن فيلمه "نوح" مثَّل لي إحباطاً عظيماً بعد أفلامه الثلاث العظيمة "پي" و"لحن جنائزي لحلم" و"البجعة السوداء".

بعد بضع دقائق من المشاهدة تبين لي أنني كنت مخطئاً جدا. فيلمه الأخير "أُم!" يحمل مرة أخرى جوهر آرونوفسكي: قسوة الشِّعر الحقيقي حين يعصف بالعالم. الفيلم قصيدة عنيفة مفتوحة للتأويل رغم أن صاحبها له تأويله الخاص المرتبط بأسطورة الخلق والولادة المطهَّرة والفِداء في الميراث الديني المسيحي إلا أنها تبقى، لبعدها الرمزي الصرف، مفتوحة على تأويلات أخرى متعددة بعدد المشاهدين القادرين على تجاوز قشرة النص السينمائي السطحية للغوص أعمق والمشاركة في صناعة المعنى مع مؤلف الفيلم.

الفيلم هو بطولة مطلقة لجنيفر لورانس وخابيير بارديم. ولكن براعة وعمق وقوة أداء جينيفر لورانس لدورها الطاغي على الفيلم جعلت خابيير بارديم رغم أدائه المتقن والنقي يتراجع قليلاً للخلف. ويمكننا أن نرى أيضا ممثلين مبدعين في أدوار صغيرة لكنها مؤثرة مثل إد هاريس وميشيل فايفر. لكن رغم ذلك، ودون أدنى شك، يبقى هذا الفيلم فيلم جنيفر لورانس الذي تؤدي فيه أفضل دور في حياتها المهنية. فالكاميرا لا تبتعد عنها أبداً، إنها قصتها وعبر نظرتها نرى كل شيء. فمنذ أن استيقظت من فراشها في بداية الفيلم والكاميرا تتبعها من مسافة قريبة لا تفارقها وترصد دقائق أحاسيسها وأفكارها وهلوساتها وتوجساتها. خابيير بارديم، كالمعتاد، يقدم لنا أداءً متقنا لدور من أكثر الأدوار تعقيدا مع إبقائه مفتوحاً على العديد من القراءات. فهل بارديم يجسد الله، أم مجرد شاعر يمر بأزمة إبداع، فهذا ما تركه آرونوفسكي، وما سأتركه أيضاً مفتوحاً في وجه تأويل المشاهد. لكن الأكيد والمدهش هو أن نقف على كمية الأحاسيس التي باستطاعة هذا الممثل أن يظهر لنا مع تغيير تعابيره في كل لحظة من الفيلم.

فيلم بلا موسيقى. فيلم لم يحتج لأية موسيقى، ما عدا في لائحة أسماء النهاية، حيث استمعنا لأغنية رائعة مناسبة ومتناسقة تماماً مع ما رأيناه. رائع أن الموسيقى غابت عن الفيلم لأنه ببساطة لا يحتاج إليها. غابت الموسيقى لكي يمكننا أن نشعر بكل قطرة تقع، بكل نفس، بكل ضربة وبكل تنهيدة حب أو رعب تحدث داخل المنزل الذي لا نغادره طوال مدة الفيلم.

في التقطيع حقق آرونوفسكي التوازن بين لقطات طويلة بكاميرا محمولة متحركة ببراعة ولقطات قصيرة متشظية يجمع بينها توضيب عصبي ومتوتر. أما في التصوير فالعمل الجديد لدارين آرونوفسكي، يمكنه أن يكون من ناحية إدارة التصوير ثالث الأفلام العظيمة في العام الذي مضى إلى جانب "دانكيرك" لكريستوفر نولان و"ديترويت"  لكاترين بيگيلو. فبعيدا عن لغة الفيلم المدروسة وفاعليتها الكبيرة، إلا أن "أم!" يجد روحه المفعمة من هاليدات الفضة التي تشكل المنطقة الحساسة لشريط الـ 16مم، وهو الذي شكَّل الفضائل الجمالية البصرية التي أثرت السرد، ودعَّمت رمزيته وساهمت في تغليفه بهالة كابوسية كان لا يمكن الوصول إليها باستعمال وسائل تصوير أخرى. أما المؤثرات الخاصة المثيرة للإعجاب  في الفيلم فقد بقيت غير فضائحية بالمرة كما يعجبني أن تكون.

لقد كانت ليلة البارحة ممتعة مع كابوس آرونوفسكي.