الإنسان تحديدا هو الحرية. والحرية في المقام الأول هي أن يفكر الإنسان بدون إكراهات ولا قيود فيقول ما يُؤْمِن به وما يفكر فيه متى شاء وكيفما شاء، وحيثما شاء دون أن يخشى أي شيء. وإذا لم يستطع أن يعبِّر عما يُؤْمِن به فكأنه غير موجود، أو كأنه مجرد شيء غفلٍ بين أشياء العالم المادي. لذلك فمعيار وجود الإنسان هو الحرية، وليس غريبا البتة أن يقول عميد الأدب العربي طه حسين: إن الحرية هي أساس الإبداع، وكل مجتمع لا يقيم للحرية وزنا فهو لا يقيم للإنسان وزنا، لأن الحرية هي التي تسمح بالكشف والبحث والتساؤل والفحص والتمحيص، ما يساعد على تشكل إبداعية الإنسان وعطائه. ومن المؤسف أن أقول إن المجتمعات العربية الإسلامية تدخل ضمن المجتمعات التي لا تقيم للفرد أي اعتبار.. ومن ثمة فهي لا تعترف بوجوده. فهناك صعوبات كثيرة تعترض حرية الإنسان في هذه المجتمعات، إذ الرقابة المسلطة على الفرد ليست فقط سياسية، بل هي أيضا عائلية واجتماعية وثقافية، لأن هذا النوع من التحكم جزء لا يتجزأ من بنيتنا الذهنية، حيث تتجذر ثقافة الاتباع والطاعة والامتثال في أعماقنا، وتحول دون معرفتنا لذاتنا، وثقافتنا وتاريخنا، كما أنها تقف حاجزا أمام إجراء أية قطيعة منهجية مع التقليد، بل إنها تعرقل بروز الفردانية في مجتمعاتنا، ما يحول دون قدرتنا على الإبداع وبناء مؤسسات مجتمعية فعلية تساعدنا على الانخراط في بِنَاء المستقبل.
قد يقول قائل إن التربية مفيدة في هذا المجال، خصوصا مع انتشار التعليم الحديث وتقدم دور المدرسة في عصرنا الحالي، ومع مجيء الثورة الرقمية وانتشار الأجهزة الرقمية ووسائط الإعلام والاتصال المعلومية، حيث يرى بعضهم أن هذه الثورة قد أصبحت تلعب دورا تربويا وتعليميا رائدا، وما إلى ذلك. لكن هذا لا يجدي، لأن ما يهم هو الإطار العام الذي ينبغي أن تسود فيه الحريات والاعتراف بمختلف حقوق الإنسان وتمكينه من ممارستها فعليا، حتى يتسنى لمجتمعاتنا تكوين إنسان المستقبل.
إضافة إلى ذلك، فالثقافة عندنا استهلاكية من حيث هي ثقافة «وظيفية»، ما يعني أن الإنتاج الثقافي صار آليا، حيث هناك إنتاج وإعادة إنتاج، وكأن الثقافة باتت ظاهرة اقتصادية أو صناعية. والإنتاج يتكرر، في حين الإبداع لا يتكرر. لذلك، لا يمكن للإنتاج أن يكون إبداعا، بل إنه يسيء إلى المواهب الخلاقة، كما يسيء إلى الإبداع الثقافي، لأن الإنتاج الثقافي آلي ويتكرر آليا، لكن الإبداع مزيج من الحس والتأمل والذكاء وطريقة في الفعل.. ورؤية الأشياء لا تتكرر بالطريقة نفسها عند جميع الأفراد وفي سائر القطاعات.
فضلا عن ذلك، فمواقع التواصل الاجتماعي بسَّطت الثقافة إلى حد الابتذال، لأنَّ هذه المنصَّات تقوم بمحو العالم الداخلي للإنسان إلى حد تشييئه، في حين يختلف الإنسان عن الشيء، لأنه يستطيع أن يستقل عن العالم، لكن الشيء لا يستطيع القيام بذلك. ويعني محو العالم الداخلي للإنسان محو كل ما هو مبدع فيه ومتأمل وخلاق وناقدٌ. فالمشاركة السطحية عبر وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي إلى ما هو سطحي، حيث يختفي ما هو إبداعي...
لقد جعَلنا غيابُ الفرد وإبداعاته في مجتمعاتنا العربية الإسلامية نعيش عالة على إبداعات الآخرين. فعندما تختفي حرية الفرد تختفي الطاقة الإبداعية للمجتمع، ويسوده العجز والتبعية والاتكال، ما يجعله في طريق الانقراض. وهذا هو حالنا اليوم، حيث أصبحنا لا نشارك في بناء الحضارة الإنسانية، ومقابل ذلك، اكتفينا بالجلوس في شرفة التاريخ نتفرج على مواكب أحداثه ومجرياته وهي تمر أمام أعيننا، وبدل أن نكون فاعلين في هذا التاريخ أصبحنا مجرد «مفعول بهم»، مما وضعنا خارج هذا التاريخ. ولقد نجم عن غياب الفردانية عن مجتمعاتنا ضعف المؤسسات وتهلهلها، حيث غدت مجتمعاتنا لا تقوم على أي أساس صلب، ما قد يفقدنا مناعتنا ويسقطنا في متاهات خطيرة لو حصلت، لا قدر الله، فسوف يكون من الصعب جدا علينا التخلّص من مخالبها وما تفرضه من مآلات علينا غير محمودة العواقب....