إن الظرفية التي نعايشها، في ظل مد محافظ متصاعد، اضطرتنا أن نحاول التعايش مع سلوكات رجعية كنا نأمل أن تتجاوزها.. فاعتقادنا أن الأمر يتعلق سببيا، في غالب الأحايين، بتمثلات وترسبات ماضوية، لكن يبدو أن هناك إرادة صريحة تنحو نحو فرض اختيارات وقناعات ذكورية راسخة في مجال العدالة.
فبعد جهد جهيد، استطاعت النخبة الوطنية أن تغير من إيقاع معاملة المرأة، من اعتبارها مجرد كائن قانوني تؤطره مدونة الأحوال الشخصية، في علاقتها بموضوع الزواج والولادة والحضانة والطلاق، إلى مواطنة فاعلة ومشاركة ضمن سياق افراز ترسانة شبه منفتحة على العلم والاقتصاد ووسائل التقدم الحديثة. وقد ذكرني هذا التحول الحثيث والملموس بالمعارك التي خاضها الحداثيون والحداثيات من رجال القانون والقضاء، وكان أبرز مؤشر فيها المقالة الشهيرة التي حررها، منذ اكثر من عقدين، عمر عزيمان بالفرنسية وترجمها، آنذاك عبد الحميد الجماهيري، عاب فيها على المستوي العلمي للقضاة الشرعيين، على الخصوص، والذين اعتبر أحكامهم مضرة بالتقدم والتحديث لكونهم تتلمذوا في المدارس العتيقة واجتهادهم يعتمد النقل التقليداني بدل العقل.. ولقيت مقالته حربا شعواء، فصار كاتب المقالة مستهدفا من قبل ممثلية القضاة بتوجيه من الصدر الأعظم آنذاك.
فهل يمكن القول إن نبوءة وزير العدل آنذاك، أم إن التاريخ يعيد نفسه في شكل ارتكاسة حقوقية؟؟
فعندما نقرأ الحكم الذي أصدره القاضي في حق زوجة يجبرها على قبول أن يتزوج زوجها بثانية كضرة بعلة أنها لا تلد الذكور، فهذا ينم عن أمية وجهل مزمن.. والحال أنه من أبجديات العلوم الطبيعية، التي درسناها في «البروفي»، أي السنة الثالثة إعدادي، أن المرأة تمنح X، في حين يبقى الزوج/ الذكر هو المحدد حسب ما قد يمنحه، سواء X أو Y.
لقد حان الوقت مرة أخرى للتفكير في كيفية علاج مثل هذه الأخطاء القاتلة، فلم تعد قاعدة «القاضي خبير الخبراء» مجدية، مما يستدعي دق ناقوس الخطر ومراجعة لائحة «عيوب الزواج» الراسخة والمترسبة في بعض العقول.. فهل يكفي اعتبار الأمر مجرد خطأ، أم لابد من تشخيص مثل هاته السلوكات وتكييفها على أساس أنها تقصير متعمد بلغ في حدته درجة شبه جريمة يقتضي معها الأمر الردع الفوري بالتأديب وليس فقط التأنيب، حتى لا نعيش حالة إسهال وتواتر لمثل هذه الخطيئة في حق حكمة المشرع الحداثي المنشود، الذي عليه النظر إلى الاستحقاق من زاوية عدالة الإنصاف المقرونة بعدالة الاعتراف، بعيدا عن منطق الوصم والتمييز.. وهل بهذه العقليات سوف نحصن دور الأسرة النووية كإحدى دعائم المنظومة التربوية، إلى جانب المدرسة والوقت الحر؟
فمتى سنعيد النظر في سؤال التكوين والتأهيل والترشيد ومحاربة الأمية الافتراضية؟