كيف أصبح رمضان أكثر الأشهر نفاقا بالمغرب!

كيف أصبح رمضان أكثر الأشهر نفاقا بالمغرب!

عند حلول كل رمضان تطرح من جديد أخلاقيات التدين في المجتمع المغربي، وذلك على ضوء المقاصد الكبرى التي أحاطها التشريع الإلهي بفريضة الصيام. وبهذا الخصوص تفيد كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بأن جوهر المقاصد هو الإمساك عن كل الشهوات، وعن كل الأعمال التي من شأنها أن تلوث لسان المرء وسلوكه اليومي.

يقول الرسول الكريم َ«رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، ورُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَر». وفي حديث آخر «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائمٌ». وتأتي هذه الآيات تدعيما لقوله تعالى «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ».

من هنا تطرح الأسئلة حول ما إذا كان تدين الأفراد والمجموعات يهتدي بجوهر تلك النصوص، أم أنه يلتف حولها ليجعل التدين مجرد «لباس الراهب»، أي مجرد قناع يخفي الجوهر الخبيث في الإنسان، ومن ثم تتفجر تناقضات الظاهر والباطن في سلوك المغاربة؟

للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نستحضر مظهرين أساسين في السلوك الرمضاني كما هو جلي في شارعنا العام.

المظهر الأول يعطي الانطباع بتنامي الوعي الديني، وبتكاثر عدد المصلين في هذا الشهر، وبموازاة ذلك نسجل تنامي الإقبال على الأكل، وعلى التبضع بحيث تؤكد الأرقام أن هذا الشهر المعظم هو أكثر الأشهر إنفاقا لدرجة صار معها الأكل بمثابة عبادة تضاهي عبادة الصوم والصلاة.

المظهر الثاني يقف على مكان النقيض من المظهر الأول، ذلك أن السلوك اليومي للعديد من الصائمين يبدو مخالفا لجوهر المقاصد الكبرى التي أشرنا إليها سالفا، والتي تفترض أن تطبيقها سيجعل مجتمعنا في درجة من العفة والطهارة قد تجعلنا نتصور أن «الملائكة» وحدهم من يحلق في سماواتنا وعلى أرضنا، والحال أن الشارع يحيا بخلاف ذلك. إننا نلاحظ بهذا الصدد أن العديد من المصلين ما أن ينهضوا من صلاة التراويح حتى يعودوا إلى لوثة اللسان والعقل. إن جلهم لا يكتفي بالتنابز بكلمات الشتم والرذيلة، لكنهم يحترفون النميمة في أقرب المقاهي إلى المساجد، ويمارسون الغش وخيانة الأمانة والتكاسل في مقرات العمل، ويمارسون التدليس أثناء عمليات البيع والشراء، ولا يتوانون عن أكل لحم جيرانهم وزملائهم حيا. إننا نلاحظ أن العديد من الإدارات العمومية والجماعات «يسوط البرد» في مكاتبها في رمضان بسبب تغيب العديد من الموظفين بدعوى التعبد.

إننا نلاحظ كذلك أن شهر رمضان المعظم هو أكثر الأشهر التي تتنامى فيها ظاهرة البغاء على الرصيف، وفي البارات والملاهي التي يتحول إلى أوكار للشيشة، ولاصطياد العاهرات، والقاصرات منهم على الخصوص.

هذه المظاهر، بطابعها المفارق، تتصارع في سلوكنا اليومي. ومن الطبيعي أن ينتصر جانب الشر على جانب الخير المفترض أن يكون هو المنتصر في رحاب الشهر الكريم، والنتيجة أننا نكون إزاء أكثر الأشهر نفاقا، وهو ما يبعث بالفعل على القلق إزاء هذا الوضع الانشطاري.

ليس مصدر القلق التفكير في ضرورة قيام مجتمع طاهر سليم من الموبقات والرذائل بالمعنيين الديني والاجتماعي على اعتبار أن «المدينة الفاضلة» لا توجد إلا كحلم، أو كتعبير عن السمو نحو مراقي المطلق، ولكن مصدر القلق يعود إلى خطورة آثار هذا النفاق العام الذي لا تنحصر فقط في السلوك الرمضاني، بل تمتد لتصبح سلوكا على امتداد السنة ذا الانعكاسات السلبية في العلاقة مع العمل، ومع الدراسة، ومع المسؤوليات داخل إدارة الشأن العام.

إنه الخلل الذي يضخمه رمضان الكريم لينبهنا إلى أننا صرنا مجتمعا فاسدا على مستوى قيمه وعلى مستوى بنياته العميقة. وهذا بالضبط ما يسعى ملف هذا العدد لإثارته وطرح مخاطره للتداول العام، ولذلك ينبغي في تصورنا أن نتوجه لمحاصرة هذا العطب العارم عبر ثلاث قنوات:

تجديد دور العلماء وأئمة المساجد في تنمية الوعي بحقيقة رمضان وبأهمية مقاصد الصيام في بلورة سلوك المؤمن وترجمة طهارة الصلاة في رمضان في السلوك اليومي للمواطن (في الدرب والمعمل والإدارة والشارع).

تجديد دور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة على الخصوص لتتوجه إلى إنتاج برامج التوعية بناء على رؤية عصرية، وبمقاربة إبداعية تنبه إلى خطورة أن يظل رمضان بالمغرب شهر النفاق بامتياز.

أما القناة الثالثة فتهم المناهج الدراسية انسجاما مع الرغبة الرسمية في بناء سلوك ديني منفتح على قيم التسامح.

إن هذه القنوات الثلاث بمثابة ورش حيوي لا يقل أهمية عن باقي الأوراش الكبرى التي يباشرها المغرب في مجالات الصناعة والتعمير والاستثمار والربط الطرقي والسككي وغيرها. وسيكون من أهداف هذا الورش أن يردم الهوة السحيقة بين الظاهر والباطن في أخلاقيات التدين. وإذا تحقق ذلك نكون بالفعل قد صغنا قراءة معقولة للنص الديني، وتمثلا صائبا لمعنى الإمساك عن الشهوات، وعن كل مظاهر الفساد الفردية والجماعية التي تعيق إمكانيات التطور في بلدنا الناهض. آنذاك فقط نكون قد تجاورنا عتبة القلق، وصرنا مطمئين نسبيا على حاضر ومآل مجتمعنا المغربي.

تفاصيل أوفى تطلعون عليها في عدد أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد حاليا في الأكشاك