ثمانية ملايين قبايلي.. "الأشواك" التي تدمي حلق عبد العزيز بوتفليقة

ثمانية ملايين قبايلي.. "الأشواك" التي تدمي حلق عبد العزيز بوتفليقة

في الثالث من نونبر 2015 قدم عمر ربيع (عضو البعثة المغربية في الأمم المتحدة بنيويورك) مرافعة غير مسبوقة تدعو المنتظم الدولي إلى الخروج من موقف الصمت باتجاه الإنصات إلى آلام وآمال أزيد من ثمانية ملايين قبايلي، بالجزائر وإلى تمتيع منطقتهم بحقوقه الشرعية في تقرير المصير والحكم الذاتي، لتخرج من دائرة العزلة التي فرضها عليها النظام الجزائري منذ الاستقلال. وقد كانت تلك المرة الأولى التي يصطف فيها المغرب إلى جانب حقوق منطقة القبايل في مواجهة نظام لم يذخر أي جهد في مناهضة حقنا في الصحراء باسم الحق في تقرير المصير، مع فارق أننا اهتدينا إلى حل الحكم الذاتي الموسع الذي حظي بقبول المنتظم الدولي، في حين تستمر الجزائر في إجهاض الحق القبايلي بدعوى المحافظة على وحدة الجزائر، وبذريعة تدخل أطراف خارجية في صدارتها المغرب. كيف بدأت قضية القبايل تحديدا؟ ومن هم نشطاؤها؟ وماذا يريد القبايليون تحديدا؟

اتهام الجزائر رسميا للمغرب بدعم حركة القبايل ليس جديدا، ذلك أن أول تصدع في العلاقة المغربية - الجزائرية كان قد تزامن مع التصدع الحاصل في حركة التحرير الجزائرية في السنة الأولى التي تلت الاستقلال (1963) بسبب هذه المنطقة بعد أن أعلن القيادي حسين آيت أحمد تمرد القبايل دفاعا عن حق التعدد، ومناهضة فكرة استئثار جبهة التحرير بالمشهد السياسي والعسكري الجزائري، ولتغييبها لمبدأ التعدد في إدارة الشأن العام هناك. ولأن قيادة الجزائر كانت تبحث عن عدو، فقد اعتبرت أن العدو لن يكون بامتياز سوى المغرب بدعوى دعمه لتمرد حركة حسين آيت أحمد، في إطار التشويش على المطالب المغربية الخاصة بترسيم الحدود بين البلدين، وذلك ما شكل إحدى حلقات التوتر الذي حاول المغرب إخماده بتوقيع «بلاغ الوفاق» في وجدة. لكن ذلك لم يمنع العسكر الجزائري من مواصلة التحرش ببلادنا إلى أن اندلعت «حرب الرمال» في سياق الحرب الباردة، وبفضل جهود عربية ودولية توقفت الحرب دون أن يمنع ذلك من أن تشكل تلك الحرب عقدة التأزم في العلاقات بين البلدين، وورما دائما في اللاوعي السياسي لحكام الجزائر.

وبرغم إعلان المغرب الرسمي دائما بأن لا علاقة له بالشأن الداخلي الجزائري، وبأنه غير معني بالتجاذبات السياسية للأطراف هناك فقد ظل المغرب الشماعة التي تعلق عليها الجزائر كل فشلها، وعوامل عجزها التنموي. وكلما تفجر ذلك الورم، التفتت إلى جارها الغربي عوض الذهاب إلى جوهر مشاكلها الذاتية.

حدث الانفجار اليوم في منطقة القبايل يوم 3 مارس 1980، حين منعت السلطات الجزائرية الأديب مولود معمري من إلقاء محاضرة حول الأدب الأمازيغي بجامعة تيزي وزو، الأمر الذي خلق حالات احتقانات دامية قوية امتدت لتشمل كل مرافق الحياة اليومية بدءا من المؤسسات التعليمية  في المدارس والجامعات، وصولا الجامعة إلى المؤسسات الإدارية وكل شوارع القبايل، إلى أن التأمت أكبر انتفاضة يعتبرها المتتبعون أكبر تعبير احتجاجي تعرفه الجزائر منذ الاستقلال ضمن ما يعرف في أدبيات البلد الجار بالربيع الأمازيغي الذي خلف عددا كبيرا من الضحايا، واعتبر بذلك أول جرح في العلاقة بين القبايليين والسلطات.

في أبريل 2001، أقدمت السلطات نفسها على قتل شاب قبايلي اسمه ماسينيسا كرماج في مخافر الدرك الجزائري. وهو ما فجر ما يعرف بالربيع الأسود الذي خلف هو الآخر ضحايا كثرا. وعوض أن تنصت هذه السلطات إلى أن ثمة حقيقة لابد من مواجهتها بالإنصات والتجاوب مع مطالب القبايليين لجأت إلى فرض عقاب جماعي يقصى المنطقة من كل تنمية جهوية ويجعل المطالبة بالحق في الوجود جريمة موصوفة يعتبر من خلالها كل قبايلي في حالة التلبس.

وحين اشتعلت عشرية العنف والدم في كل التراب الجزائري من 1992 إلى 2002 كانت منطقة القبايل أكثر الجهات التي أدت فاتورات الاقصاء والقهر. في هذا السياق برز فرحات مهني (المطرب الجزائري والناشط الحقوقي) كأحد أكثر الأسماء النشيطة في هذا المجال. وقد أهله لذلك انتماؤه إلى القبايل وعمله المبكر في الحقل السياسي الحقوقي، خاصة انخراطه في تأسيس العصبة الجزائرية لحقوق الانسان، وعمله إلى جانب كثيرين من أجل تأسيس "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، وهو ما كلفه متابعات واعتقالات متعددة.

استنادا إلى كل هذا الرصيد بادر فرحات مهني، عقب مأساة قتل الشاب ماسينيسا مباشرة، بالإعلان، في يونيو 2001، عن تأسيس «الحركة من أجل استقلال منطقة القبايل» ليخلق من خلالها معطى جديدا في تفاعلات واضحة: الحق في استقلال منطقة القبايل، ومناداة الشرعية الدولية بالاصطفاف إلى جانب الحركة ضد استفراد حكام الجزائر بثروات البلاد وبالقرار السياسي. ومن ثم سعى إلى كسب عطف المجتمع الدولي باسم حرية الشعوب في الاستقلال. لكن الحركة ستقوم بمراجعة إطارها الفكري والمذهبي لتقر ابتداء من سنة 2013 التحول من «الحركة من أجل استقلال منطقة القبايل» إلى «الحركة من أجل الحكم الذاتي للقبايل». وبناء عليه، اعتمدت احتفالات سنوية بذكرى الربيع الأمازيغي (1980) والربيع الأسود (2001)، وتطورت إلى اليوم عبر القيام بتوسيع مساحات التحرك داخل المنتديات الدولية، خاصة على خلفية استمرار الاحتقان السياسي والنفسي الذي يعاني منه القبايليون بعد أن تأكد أنهم مغيبون عن أجندة السياسة الرسمية. وفي هذا الإطار تبلورت مطالب الحركة لتمتد من التأكيد على البعد الهوياتي الأمازيغي أساسا إلى الدعوة إلى الاعتراف بالخصوصية القبايلية، وبإقامة حكم ذاتي في المنطقة.

في يونيو 2010، وبمناسبة مرور ثلاثين سنة على أحداث الربيع الأمازيغي (أبريل 1980) أعلنت الحركة من أجل الحكم الذاتي لمنطقة القبايل عن تشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة فرحات مهني. وقد حظيت هذه الحكومة باحتفاء من لدن المنظمات الحكومية الدولية. كما صار فرحات مهني يتحرك في المنتظم الدولي كحامل لقضية تطالب بتفعيل كل الآليات الدولية لإنصاف منطقة القبايل. نذكر في هذا الإطار دعوته إلى الاتحاد الأوربي بقيادة فرنسا للتدخل من أجل حماية الشعب القبايلي إثر الأزمة التي نشبت، سنة 2013، بين في غرداية بين الميزابين (الأمازيغ) والشعانبة (العرب)، والتي اعتبر من خلالها مهني أن الدولة الجزائرية تستغلها لمزيد من قهر القبايليين. وقد توج هذا الحراك بحضور دولي مشع تكرس بإقدام الحركة على تنظيم وقفة أمام مقر الأمم المتحدة يوم 11 أكتوبر 2015، تم فيها رفع العلم الوطني الرسمي لمنطقة القبايل.

إزاء كل الحراك المتنامي، يسجل القبايليون استمرار السلطات الجزائرية في تجاهل مطالبهم، وفي اعتماد خطة شيطنة المنطقة وتهريب الأزمة باتجاه اتهام أطراف الخارج، بما فيها فرنسا والمغرب وإسرائيل، خاصة أن رئيس الحكومة المؤقتة كان قد قام بزيارة إلى هناك معتبرا، مثل عدد من الأمازيغيين، بأن لا مشكلة تاريخية أو إيديولوجية له مع الإسرائليين الذين يرى بأنهم يتقاسمون مع القبايليين واقع الظلم والشتات والحيف. وبغض النظر عن السلوك القبايلي المتمثل في مواقف «الحركة من أجل الحكم الذاتي لمنطقة القبايل»، فالمؤكد أن الجزائر المقعدة اليوم، والمحكومة بمركب مصالحي عسكري وسياسي ومالي عاجزة لحد الآن عن التجاوب مع مطالب جزء من كيانها الترابي، مكتفية بإدارة الوهم تجاه حقنا في صحرائنا المسترجعة، وبدعم كيان الانفصال الذي لن يخدم إلا مشروع تفتيت الكيان المغاربي.

لقد أقر المغرب حل الحكم الذاتي الموسع انسجاما مع ديناميته الديمقراطية، ومع حق جهة الصحراء مثل كل الجهات المغرب في تدبيرها للشأن اليومي تحت السيادة المغربية. فهل تهتدي الجزائر إلى نفس الحل حفاظا على وحدة الجزائر وعلى وحدة الإطار المغاربي بتبني الحل الذاتي لتنصرف شعوب المغرب والجزائر إلى بناء أفقهم المغاربي، بعيدا عن المزايدات التي تخفي حقيقة حجز الحكام هناك لطاقات الجزائر وللحلم المغاربي، فقط من أجل المال والمصالح ودوام الامتيازات.