يكاد يكون وضع قدماء المحاربين وذوي حقوقهم ومكفولي الأمة أشبه بدم عثمان الذي هدر وتفرق. لا يكاد يخلو نص قانوني أو تنظيمي أو توجيه إلى المؤسسة العسكرية ، من الإشارة إلى حقوق قدماء المحاربين والجرحى وشهداء الوحدة الترابية ، حتى إن غير العارف بالأمور وبالأوضاع الحقيقية المأساوية لهذه الفئة من المجتمع ، تتكون لديه صورة مغلوطة يعتقد من خلالها أن هذه الفئة تحظى بكل الرعاية والعطف والعناية والحقوق المنصوص عليها في تلك القوانين المدفونة في رفوف الحكومة والمؤسسة العسكرية و التي يتم إخراجها وزفها إعلاميا في المناسبات الوطنية وفي كل مناسبة تظهر فيها الحاجة إليها لأجل استهلاك داخلي وخارجي.
هذا التقديم لم يكن ضروري لأجل تناول موضوع العمل الجمعوي المرتبط بالمؤسسة العسكرية ، بل المربوط بها ، بحكم العلاقة القسرية بينهما كما سيتبين لاحقا.
جرت مياه كثيرة تحت الجسر ، في وادي العسكر ، في هذا البلد السعيد ، منذ سنة 1969، تاريخ إنشاء جمعية قدماء المحاربين ، إلى اليوم . تغيرت أشياء كثيرة ووقعت تحولات مهمة في شتى مناحي الحياة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
عرفت المملكة أربعة دساتير وتم تغيير مؤسسات كما تم إحداث مؤسسات سياسية ودستورية وانتقل عدد الأحزاب من ستة إلى أزيد من ثلاثة وثلاثين حزبا سياسيا وأصبح البرلمان بغرفتين وانتقلنا من مؤسسة الوزارة الأولى إلى مؤسسة رئاسة الحكومة وبلغ عدد الجمعيات ما يقارب 100 ألف جمعية تشتغل في مختلف مجالات الحياة، بالإضافة إلى 36 حزبا، وأصبح المجتمع المدني يشكل رقما يحسب له حسابه في المعادلة الاجتماعية والحقوقية والسياسية في البلاد وانتقل عدد سكان البلاد من حوالي 18 مليون نسمة إلى ما يفوق 35 مليون نسمة.
باعتبارها جزءا رئيسيا من منظومة الدولة المغربية عبر التاريخ ، لم تكن المؤسسة العسكرية بمنأى عن التطور الذي عرفته البلاد ، سواء على المستوى الهيكلي والعددي أو على المستوى العلمي والمعرفي والتكوين المهني وكذلك مستوى الخبرة الميدانية وعلى مستوى الأدوار والمهام .
لقد انتقل عدد أفراد القوات المسلحة الملكية من حوالي 40 ألف فرد إلى ما يفوق 300 ألف فرد ، حتى أنه تعتبر اليوم من أقوى جيوش العالم عددا وتدريبا وتسليحا ، وبالنظر لحجمها واتساع رقعة نشاطها وتنوع وتعدد المهام المنوطة بها ، داخليا وخارجيا فإن لهذه القوة الكبيرة مخلفاتها الإنسانية المرتبطة بالأساس بأعداد المتقاعدين والمسرحين لأسباب مختلفة ، الشيء الذي يترتب عليه أوضاع إنسانية خاصة لهذه الفئة، اجتماعية وصحية ونفسية بالخصوص.
خلال هذه المدة الزمنية الطويلة ، التي تعادل 46 سنة ، احتكرت ساحة العمل الجمعوي المرتبط بالمؤسسة العسكرية وبالضبط بمتقاعديها ومحاربيها القدماء، جمعية واحدة ووحيدة " الجمعية الوطنية لقدماء المحاربين> تحمل صفة جمعية ذات نفع عام تقوم ، نظريا ، بتأطير و تمثيل قدماء المحاربين في اللقاءات والأنشطة والبرامج التي تعدها وتشرف عليها المؤسسة العسكرية بطريقة مباشرة أو تلك المتعلقة بمؤسسة الحسن الثاني للأعمال الاجتماعية لقدماء المحاربين وقدماء العسكريين.
ارتبطت نشأة جمعية قدماء المحاربين بظروف خاصة جدا، تتمثل بدرجة أولى في العدد الهائل من قدماء المحاربين نتاج الحربين العالميتين الأولى والثانية وكذلك الحروب الهند الصينية في الفيتنام وغيرها من مناطق العالم ، هؤلاء المحاربون الذين لم يتم استيعابهم وإدماجهم في الجيشين النظاميين الفرنسي والمغربي ، لأسباب مختلفة وبالتالي كان لزاما على الدولة المغربية خلق إطار للتكفل بهم وحماية مصالحهم المرتبطة بالخصوص بسنوات الخدمة تحت راية الجيش الفرنسي في ظل الحماية على المغرب.
الأغلبية الساحقة من هؤلاء المحاربين الذين وجدت جمعية قدماء المحاربين من أجلهم، غادروا إلى دار البقاء وفي حلقهم غصة من عدم اعتراف بتضحياتهم وعدم استيفاءهم لحقوقهم نظير خدماتهم ومعاناتهم في ساحات المعارك وفي سجون ومعسكرات النازيين في مراحل التجنيد الأولى في صفوف الجيش الفرنسي وهو نفس التهميش الذي واجههم بخصوص حقوقهم عن فترات الخدمة العسكرية تحت راية الدولة المغربية وخدماتهم ومساهماتهم في الأوراش التنموية الكبرى وفي أمن واستقرار البلاد في الظروف العصيبة للفترة الأولى لما بعد الاستقلال ، حيث كان المغرب يتعرض لخطر حقيقي جراء مؤامرات ودسائس داخلية وخارجية. ما أشبه اليوم بالأمس.
منذ 46 سنة، وقد عرف المغرب ما عرف من تحول ومن نمو ومن تغيير والعمل الجمعوي المرتبط بقدماء المحاربين حكر على جمعية واحدة ترزح تحت أعباء مهام جسيمة لأعداد بل جحافل من قدماء محاربين جدد وأرامل وأيتام ومكفولي الأمة، بأعطابهم البدنية والنفسية ، هذه الجحافل المكونة في غالبيتها العظمى من المحاربين القادمين من مختلف الوحدات المقاتلة المرابطة بالأقاليم الجنوبية للمملكة، بالصحراء المغربية.
إن الواقع الراهن يفرض انفتاح الدولة والمؤسسة العسكرية بشكل خاص على جمعيات أخرى من أجل تقاسم أعباء التأطير والتنظيم والتعاون من أجل توفير وضمان شروط العيش الكريم لفائدة قدماء المحاربين وعائلاتهم وذوي حقوقهم ومكفولي الأمة. الأوضاع تختلف اليوم عن مثيلاتها بالأمس وعلى كل المستويات وبالتالي يجب أن ينعكس التطور الذي تعرفه البلاد في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية على كل القطاعات وأن يتم فتح المجال لقدماء المحاربين من أجل الانخراط والمساهمة في تطوير العمل الجمعوي من الاعتراف بالحق في تأسيس جمعيات مستقلة ورفع الحصار المضروب على هذه الفئة و وقف مصادرة حقوقها ،التي يضمنها القانون ودستور البلاد ، في تأسيس الجمعيات والهيآت التي تستجيب لطموحها.
لم يعد معقولا ولا مقبولا، اعتماد إطار جمعوي واحد وجمعية واحدة ، قانونها الأساسي أصبح متجاوزا ولم تعد مؤهلة في شكاها وفي إطارها الحالي للاستجابة لانتظارات كل قدماء المحاربين ، سواء على مستوى العدد والكم أو على مستوى النوع وكذلك بالنسبة لتعدد الحاجيات والاحتياجات .
إن سجن العمل العمل الجمعوي المتعلق بفئة قدماء المحاربين في الشأن العسكري وجعله موضوعا محرما والتعامل معه من منظور وهاجس أمني صرف ، هو تصور من شأنه أن يفرغ العمل الجمعوي من مضمونه وأهدافه الإنسانية والحقوقية ويخلق به أعطابا تعطل وتعيق تطوره وتحقيقه لأهدافه وتحوله لنظام خدماتي يغرق في الزبونية والمحسوبية ويقف عاجزا عن الإدراك الحقيقي لمفاهيم العمل الجمعوي كما هو متعارف عليها وطنيا وكونيا.
إن الاشتغال بنظام الجمعية الوحيد، لا يختلف في جوهره عن نظام الحزب الوحيد ، الذي أصبح مرفوضا لتعارضه مع أبسط القواعد والمبادئ الديمقراطية ولا يساير المسار الديمقراطي الذي انخرطت فيه المملكة المغربية.