محمد غريب: هل مستقبل الامازيغية في مواجهة العربية؟

محمد غريب: هل مستقبل الامازيغية في مواجهة العربية؟ محمد غريب

أثار تقديم حزب العدالة والتنمية بمجلس النواب لمقترح قانون يهدف إلى حماية وتطوير اللغة العربية، وذلك "باعتمادها في الحياة العامة والإدارات المغربية والتجارة الداخلية.. وفي اللوحات الإشهارية بالأماكن العمومية سواء بالشوارع أو على الحافلات، وحتى على واجهات المحلات"، أثار عدة ردود أفعال، كان من بينها ما جاء على لسان أحمد عصيد، الذي اعتبر أن هذا المقترح "يحمل مقدارا من التعصب والتطرف"، وهو "مقترح مرفوض ينبغي أن يرمى في سلة المهملات وليس أن يناقش لكونه لا يأخذ بعين الاعتبار الوضع الرسمي للغة الامازيغية.. وأن الدولة تتبنى نهج الحفاظ على اللغات الوطنية والانفتاح على اللغات الأجنبية التي تدرس في المدارس".

إن مقترح حزب العدالة والتنمية، وكذا رد فعل السيد عصيد، يثيران الاهتمام الأول لأنه ديماغوجي، والثاني لأن فيه فعلا "مقدارا من التعصب والتطرف"، وذلك للأسباب التالية :

أولا: إن حزب العدالة والتنمية غير مؤهل للدفاع عن اللغة العربية وحمايتها وتطويرها، وذلك لأنه لا يتوفر على مشروع مجتمعي حقيقي يسمح بنهضة علمية وفكرية وثقافية هي وحدها الكفيلة بأن تسمح للغة العربية بالتطور ومواكبة التحولات الفكرية والاقتصادية والعلمية في عالمنا المعاصر.. ولأن من يتبنى فكرا متحجرا وثقافة تنظر إلى الماضي لا يمكنه أن يحمي اللغة العربية من الأخطار المحدقة بها .

وبناء عليه وكما هي طبيعته يلجأ هذا الحزب إلى الديماغوجيا ويختصر كل شيء في إجراءات شكلية ليس لها أي تأثير على مستقبل اللغة العربية.

إن مستقبل اللغة العربية مرتبط بمستقبل العلوم العقلية والفلسفية لأن ازدهار هذه العلوم يؤدي إلى إغناء المعجم اللغوي بدلالات جديدة تضع رهن إشارة الفكر كل الوسائل والموارد الضرورية لتطوره .

لقد لعبت اللغة العربية هذا الدور بفعالية كبيرة وكانت لغة العلم بامتياز في فترة العصر الذهبي للفكر العربي والإسلامي، لكن بعد الإخفاق الكبير الذي عرفته الحضارة العربية والاسلامية (القرن 13م) ستفقد اللغة العربية ما اكتسبته من معجم فكري وعلمي وفلسفي بفعل انقطاعها عن العلوم العقلية ودخل كل ما أنتج باللغة العربية عالم النسيان إلى يومنا هذا، حيث ما زالت اللغة العربية تعاني من سيطرة الخطاب الإيديولوجي والقراءة الفقهية الدوغمائية للنصوص .

إذن تطوير اللغة العربية لن يتم بكتابة اللوحات الإشهارية وعرضها بالأماكن العمومية، ولكن برد الاعتبار للعقل والتفكر النقدي ورد الاعتبار في مناهجنا التعليمية للعلوم العقلية والفلسفية.

إن حزب العدالة والتنمية، الذي ينهل من الفكر الوهابي، الذي يقوم بدوره على فكر ابن تيمية المعادي للعقل والداعي للانغلاق، لا يمكنه أن يشجع على التفكير والتحليل النقدي، سواء للنصوص التراثية أو للواقع.. وعداء هذا الحزب للفلسفة وللتفكير النقدي معروف ولا يحتاج إلى دليل .

ثانيا: إن السيد عصيد، الذي يقدم نفسه كمثقف ديمقراطي يؤمن بالتعدد والاختلاف، غالبا ما يتقوقع على ذاته ولا يدافع إلا على مكون واحد من مكونات ثقافتنا المغربية ولغة واحدة هي اللغة الامازيغية، بل أكثر من ذلك إنه لا يرى أية إمكانية لتطوير اللغة الامازيغية إلا في مواجهة اللغة العربية.. ويعتبر ضمنيا أن ما تعانيه الأمازيغية من ضعف هو ناتج عن تجنيس لغوي تم بالقوة والإكراه.. ومن هنا فهو يرفض أيه سياسة تستهدف تعزيز مكانة اللغة العربية لأن ذلك سيكون على حساب اللغة الأمازيغية.

هذا المنطق غير المسنود بأية واقعة تاريخية يخفي عداء مضمرا للغة العربية رغم كون هذه الأخيرة تتعالى عن كل ما هو عرقي أو ديني. لقد لعبت اللغة العربية دور اللغة العلمية الجامعة لمختلف الشعوب التي كانت تنتمي إلى الحضارة العربية والإسلامية.. وهي لم تلعب هذا الدور بقرار قسري، بل لأنها كانت في مستوى من النضج والتطور يسمح لها بأداء هذا الدور التاريخي بدلالاتها المعبرة عن المضامين الاجتماعية والفكرية والثقافية التي ميزت المجتمع العربي والإسلامي.

وقبلها كانت اللغة اللاتينية أداة رائعة للتعبير عن الثقافة والحضارة الرومانية، وخاصة التشريع الروماني الذي كان الأساس الذي قامت عليه الدولة في أوروبا .

إذن اللغة هي عنصر حركي من ضمن عناصر أخرى لأية حضارة، وهي عنوان هذه الحضارة وأداة التفكير والتعبير، وهي نتاج سيرورة تاريخية وبناء اجتماعي، واعتمادها لا يمكن من منظور التاريخ أن يتم بقرار قسري وتطويرها لا يمكن أن يتم في المختبرات.

لقد أسس ملوك الأمازيغ دولا كبيرة كدولة المرابطين والموحدين، ورغم أن لغتهم الأصلية كانت هي الأمازيغية، فقد اختاروا احتضان وتشجيع حركة التأليف باللغة العربية لأنهم أدركوا أنها أكثر تطورا ونضجا من اللغة الأمازيغية، وبالتالي هي المؤهلة لأن تلعب دور لغة العلم، وبدونها يتعذر النشاط الاقتصادي والمبادلات مع العالم الخارجي.

إن مستقبل الأمازيغية لا يتعارض أبدآ مع مستقبل العربية، فكما أن التاريخ لا يحفظ في ذاكرته ثقافة مقفلة، فإنه أيضا لا يحفظ في ذاكرته لغة مقفلة.. وكما أننا لا نجد ثقافة تلغي ثقافة أخرى، بل بالعكس تغنيها وتتفاعل ايجابيا معها، فلا بد إذن من أن نعترف بأن اللغات تتداخل مع بعضها وتغتني وتتطور بفعل هذا التلاقح. وعلى السيد عصيد إذا كان فعلا حداثيا أن ينظر إلى التنوع اللغوي والثقافي في بلادنا من منظور تاريخي لا بمنطق أيديولوجي.

ثالثا: بناء على ما سبق يظهر غياب أي تناقض بين ديماغوجية وأيديولوجية حزب العدالة والتنمية و"تعصب" دعاة الأمازيغية الذين يضمرون العداء لكل ما هو عربي، لأنهما معا يسيران في الاتجاه المعاكس للعقل وللحركة الموضوعية للتاريخ. إن العداء بينهما عداء ظاهري .

هناك مبرر أصبح معروفا لأنه يتكرر في خطاب معظم مناضلي الحركة الأمازيغية عندما يطالبون باعتماد اللغة الامازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية. هذا المبرر يقول إنه لا يعقل في المحاكم مثلا أن نقوم بالترجمة لمواطن لا يتقن اللغة العربية لأنه ليس مواطنا أجنبيا ومن حقه أن تكون المحاكمة بلغته الأصلية .

ظاهريا يبدو هذا الكلام معقولا، لكن ودون الدخول في التفاصيل حول الصعوبات التقنية واللوجستيكية التي تمنع من اعتماد لغتين رسميتين في بلد واحد، لا بد من توضيح مهم يتعلق بالوضع اللساني في بلادنا.

إن اللغة العربية المغربية (الدارجة) بمختلف مكوناتها، واللغة الأمازيغية أيضا بمختلف مكوناتها، هي لغات الاكتساب الأولى أي اللغات الأم، أما العربية الفصحى فهي لغة الاكتساب الثانية التي يتم تعلمها في المدارس، وهي بهذه الصفة لغة جميع المغاربة، ولهذا فهي المؤهلة لكي تلعب دور اللغة الرسمية والناظم الثقافي والاقتصادي والسياسي والديني ولأنها كذلك متعالية عن أي انتماء قبلي أو عرقي.

لكن الكارثة التي جعلت نسبة كبيرة من المواطنين لا يتقنون الحديث باللغة العربية الفصحى هي كارثة الأمية التي تعتبر أكبر مظاهر الغبن والتهميش التي يتعرض لها الإنسان، وبدل الدعوة إلى تعميم ودمقطرة التعليم ليشمل كل أبناء الوطن وفك العزلة عن المناطق النائية ورد الاعتبار للإنسان أولا المحروم من ابسط الحقوق، فإن دعاة الأمازيغية يقفزون على هذا الواقع المؤلم، ويطالبون برد الاعتبار للغة أولا، واعتمادها في الإدارات العمومية.

هنا تلتقي إذن سياسة حزب العدالة والتنمية ودعوة مناضلي الحركة الأمازيغية في القفز على واقع الفقر والجهل والتهميش واقتراح حلول ترقيعية وديماغوجية: سياسية البر والإحسان لمحاربة الفقر والعزف على وتر اللغة في مواجهة الأمية والجهل والتهميش بكل أشكاله المادية والمعنوية.

رابعا: ما زالت الحركة الأمازيغية للأسف تركز في نضالها على مواجهة كل ما هو عربي، بل هناك من ينظر إلى الثقافة العربية بطريقة استعلائية ويختصرها في ثقافة البترودولار والفكر الوهابي المتزمت في مقابل الثقافة الامازيغية الأصيلة والتواقة إلى الحرية.

لقد سبق للسيد عصيد أن صرح في إحدى المناسبات أنه بالنسبة إليه القضية الفلسطينية هي قضية إنسانية، وهو يتعاطف مع الفلسطينيين لاعتبارات إنسانية. ومثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن مثقف ديمقراطي، لأن القضية الفلسطينية هي أكبر من ذلك بكثير.. إنها ليست فقط قضية تحرر وطني، بل هي "قضية كونية" كما أعلن ذلك الفيلسوف إيتيان باليبار Etienne Balibar ، وذلك لأنها تعبر عن حقيقة مرحلة بكاملها، مرحلة الصراع بين الهمجية الامبريالية وقوى التحرر والديمقراطية، وبذلك فهي تعني كل الشعوب المناضلة من أجل الحرية، وتعني بالدرجة الأولى مستقبل كل الأمة العربية والإسلامية بكل مكوناتها.

اللغات هي ذاكرة الشعوب، والحفاظ عليها وإغنائها، هو حفاظ وإغناء للذاكرة الجماعية، من هنا أهمية تحرير الطاقات للدراسة والبحث والتأليف والترجمة والتوثيق وإغناء المعاجم وتبسيط قواعد اللغة والدفاع عن المدرسة العمومية وتعميم التعليم وتطوير تدريس اللغات الوطنية والحفاظ على تراثنا الثقافي التقدمي...

إن مستقبل الأمازيغية، لغة وثقافة، لا ينفصل عن مصير العربية، لغة وثقافة، والنضال من أجل الديمقراطية الشاملة هو المفتاح الحقيقي لرفع التهميش والإقصاء عن الإنسان أولا وعن ثقافتنا الوطنية والديمقراطية بكل مكوناتها.