عبد القادر زاوي: السياسة الأمريكية في المنطقة العربية.. نزيف الشعوب واستنزاف الجيوب

عبد القادر زاوي: السياسة الأمريكية في المنطقة العربية.. نزيف الشعوب واستنزاف الجيوب

باستغراب ودهشة كبيرين غير مبررين لمن يعرف خبايا الأمور تلقى المتابعون بالمغرب من سياسيين وصحفيين ومواطنين عاديين أيضا المواقف ذات الطبيعة العدائية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة ضد المغرب ومصالحه العليا، سواء ما حصل في مداولات مجلس الأمن الدولي قبل إصدار القرار 2285 بشأن الصحراء أو في التطورات التي تلت صدور تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول وضعية حقوق الإنسان في العالم، الذي أفرد 34 صفحة للمغرب أكثر من دول عديدة اشتهرت بانتهاكاتها الصارخة لأبسط حق من حقوق الإنسان.

وقبل هذا الاستغراب المغربي المرفق بخيبة أمل رسمية عبر عنها بيان صادر عن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، كانت دول عربية عديدة تعتبر نفسها هي أيضا كالمغرب صديقة تقليدية وحليفة للولايات المتحدة الأمريكية قد عبرت عن استغرابها، بل وامتعاضها من المواقف الأمريكية الملتبسة إزاء العديد من قضايا المنطقة العربية.

وقد وصل استغراب بعض الدول العربية إلى الذروة وانقلب إلى نوع من الامتعاض عندما تراجع الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن عزمه ضرب النظام السوري إثر استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، مكتفيا بالتوصل مع روسيا إلى اتفاق لنزع تلك الأسلحة وتدميرها في خدمة جليلة أسدياها إلى إسرائيل، وتمت بها تعرية نظام دمشق من ورقة المقاومة والممانعة التي ظل يبرر بها تسلطه.

من المؤكد أن الدول العربية التي تجاوزت الاستغراب والامتعاض إلى الاستهجان لم تكن تنتظر  في الموضوع السوري من الرئيس أوباما تنفيذ إنذاره النهائي عن استخدام الأسلحة الكيماوية بقصف الرئيس بشار الأسد وتصفيته شخصيا، ولكنها أملت منه توجيه إشارة قوية لحلفاء نظام دمشق في إيران وحزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية المستقدمة من العراق وأفغانستان فحواها أن واشنطن لن تسمح لهم بالانتصار وتنفيذ مشروع هلالهم الشيعي العتيد على حساب حلفائها العرب السنة، ولكنه لم يفعل.

والمغرب بدوره لم يكن ينتظر من الإدارة الأمريكية اعترافا رسميا بمغربية الصحراء، وإنما ظل يطالبها وسيظل بالبقاء منسجمة فيما تقدمه من اقتراحات مع ما يتكرر من تصريحات على لسان مسؤوليها عن أن واشنطن ترى في فكرة الحكم الذاتي جهدا مغربيا جديا وذا مصداقية يمكنه أن يشكل أرضية مناسبة لتلبية تطلعات سكان المنطقة، ولترجمة ما تتميز به من خصوصيات جغرافية وثقافية.

هذه المواقف الملتبسة والغامضة للإدراة الأمريكية دفعت العديد من الباحثين إلى محاولة إيجاد تفسير أو تبرير لها، وجد البعض ضالته إليهما فيما أسماه تضارب الرؤى ووجهات النظر لدى أركان الإدارة الأمريكية الحالية ؛ بل إن في ملف الصحراء أومأ مختصون إلى إمكانية أن يكون وراء الموقف العدائي الأمريكي شخصية واحدة هي السيدة سوزان رايس مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي.

ولا يخفى على أحد أن مثل هذا الاستنتاج مغلوط ومغلط في آن واحد. فهو يتجاهل أن أمريكا قبل كل شيء دولة مؤسسات، وليست دولة نزوات، كما يسعى إلى تكريس فكرة تحاول بعض الدوائر المغربية لدوافع مبهمة ترويجها تقوم على أساس أن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما يعاملان المغرب كاستثناء في محيطه العربي والإفريقي، فيما الحقائق على أرض الواقع، وفي ذهن صانع القرار الغربي هي غير ذلك على الإطلاق.

لقد جاءت الإثارة القوية للموضوع من طرف جلالة الملك أمام القمة المغربية الخليجية لتدحض فكرة الاستثناء هذه، التي لا تصمد أيضا أمام الأبعاد الإفريقية للمغرب كما تتصورها الإدارة الأمريكية الراغبة والتواقة إلى أن تنقل إلى أراضيه قاعدة القوات الأمريكية للتدخل في إفريقيا ( قوات أفريكوم  ). ولعل هذه الرغبة هي مربط الفرس للضغوط الممارسة على المغرب من زاوية وحدته الترابية، والابتزاز الذي يتعرض له من خلال بعض الخروقات المسجلة في مجال حقوق الإنسان.

إن الولايات المتحدة الأمريكية تتحرك في المنطقة العربية وفي دول شرق أوسطية أخرى على ضوء مجموعة من المعطيات الداخلية والخارجية المستخلصة من تجربتها مع أحداث 11 سبتمبر 2001، والتطورات التي تلتها. فالواهم هو من يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي بصدد الانسحاب من المنطقة، وتركها تواجه مصيرها وحدها.

فالانكفاء عن التدخل العسكري المباشر للأمريكيين في أزمات منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة يعود إلى ميول واضحة في هذا الاتجاه مسجلة في أوساط الرأي العام الأمريكي أملتها  مجموعة من العوامل أهمها :

*فشل تجربة التدخل العسكري الضخم والمباشر في العراق وأفغانستان، والتورط في مستنقعهما بخسائر بشرية وازنة بالمقاييس الأمريكية، وخسائر معنوية طالت منظومة قيم الحلم الأمريكي نفسه، ناهيك عن خسائر مادية أثقلت كاهل دافع الضرائب، وسببت ركودا اقتصاديا ما تزال الإدارة الحالية تعالج تبعاته.

*الاقتناع بنجاعة سلاح العقوبات الاقتصادية والمالية، وعند الضرورة العسكرية القصوى الاكتفاء باستعمال القوة الجوية، وخاصة الطائرات من دون طيار التي أثبتت فاعلية كبرى ضد معاقل التنظيمات الإرهابية

والواضح أن هذه الميول لدى الرأي العام كان لها بالغ الأثر في تبلور مجموعة قناعات لدى أركان الإدارة الأمريكية وفي مقدمتهم الرئيس باراك أوباما نفسه، مفادها أن حلول أزمات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهي كثيرة وقديمة ستظل مستعصية، وأن التضحيات الأمريكية البشرية والمادية لن تحقق أي نتيجة تذكر، مثلما أثبت التدخل العسكري المباشر في العراق وأفغانستان.

ويعزو الأمريكيون هذا الاستعصاء إلى استفحال أجواء التعصب الطائفي والعرقي والديني والمذهبي والاعتداد الشكلي بالسيادة الوطني السائدة في المنطقة، وإلى قيادات يعتقدون أن معظمها فقد شرعيته مع ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، ولكنه انطلقت ساعيا بسخط وانتقام إلى إعادة فرض هيبته عبر الترهيب والترغيب بغية ترسيخ سلطاته المطلقة، وإلغاء أي منافسة داخلية له، ومحاربة بعضهاالبعض على الصعيد الإقليمي.

ولهذا تعتقد الإدارة الأمريكية الحالية أن مثل هذه الأجواء لا تعمل على تهيئة الظروف لتبني مفاهيم ديمقراطية ولبرالية حقيقية، مستندة في ذلك على الطريقة التي تقول إن الأنظمة العربية أجهضت بها مخرجات أشغال منتدى المستقبل، الذي كانت إدارة الرئيس بوش الإبن تعول عليها لإصلاح الأوضاع في المجتمعات العربية، والتي تبناها الرئيس أوباما شخصيا، وأكد عليها في خطابه الشهير بجامعة القاهرة في مستهل ولايته الأولى سنة 2009.

وبما أن هذه هي حقيقة الأوضاع في المنطقة، وأن المصلحة الأمريكية العليا ترفض استقرارا في المنطقة يكرس استمرار أجواء الفساد والاستبداد وتقليص دائرة المشاركة في القرار إن لم يكن احتكارها من طرف المستفيدين منها، فإن الضرورة تقتضي إشغال المنطقة، وجعل الارتباك يسودها لعل ذلك يساهم في تحريك المياه الراكدة، وتأجيج ميكانزمات الصراعات الداخلية والإقليمية بما يساعد  على إنهاك الجميع، وعلى إفراز أوضاع مغايرة تفرض مع الزمن  إرادة حقيقية للتغيير المنشود من القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد نجحت الاستراتيجية الأمريكية هذه بامتياز لحد الآن بعد أن تمكنت من توظيف تفاعلات ثورات الربيع العربي واحتجاجاته وإصرار حكام المنطقة على وأدها أو تجييرها. ويكمن هذا النجاح فيما يلي :

*تعميم الفوضى التي يريدونها خلاقة بدرجات متفاوتة، ولكنها في كل الأحوال كلها مستنزفة للبشر أو للمال أو لكليهما معا، إذ لم يعد هنالك أي بلد عربي أو إسلامي في منطقة الشرق الأوسط غير مستنفر لمواجهة التحديات الأمنية والإرهابية المحدقة به.

*عزز هذا التعميم فرص تفجير مفهوم الدولة الوطنية وباتت مستساغة وغير مستغربة لدى أهل المنطقة إمكانية تفجير بعض هذه الدول بالتقسيم أو الفدرلة، ناهيك عما هو أخطر ممثلا في تقوية قوى عسكرية بديلة أو موازية للجيوش الرسمية وأحيانا أقوى منها، كما تشي بذلك حالة حزب الله في لبنان، وحركة الحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، الذي سبقته في ذلك بشمركة كردستان، التي يجري على نسقها وبرعاية أمريكية أيضا تأسيس وحدات حماية الشعب الكردي في سوريا لتغدو بلقنة المنطقة واقعا حيا ومرشحا للتشرذم أكثر، سيما وأن المسألة الكردية مرشحة للتفاقم مع انتعاش آمال أكراد تركيا، وبدء إيقاظ أكراد إيران

*في ظل هذا الاستنفار ازداد التودد للولايات المتحدة الأمريكية، إذ لا أمل في حلول سياسية لمشاكل المنطقة دون موافقتها حتى حيث بدت منسحبة أو غير مبالية كما في الحالة السورية، التي اضطرت روسيا رغم حضورها الطاغي إلى مراعاة المصالح الأمريكة، ناهيك عن التنسيق ضمنيا مع إسرائيل لتفادي اي اصطدام محتمل هناك.

*التهافت على شراء الأسلحة الأمريكية التي ارتفعت مبيعاتها للمنطقة بشكل كبير، مسجلة خلال سنة 2015 رقم مبيعات يفوق 45 مليار دولار، مصحوبا بتغير لافت في طبيعة التعاون العسكري الذي أصبح البنتاغون سريع التجاوب فيه، وأقل تشددا في بيع الأسلحة الهجومية الأكثر ملاءمة لمواجهة حروب العصابات.

وبذلك ودون تورط عسكري مباشر قد يكون مكلفا ماديا وبشريا، تمكنت السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط من إحداث نزيف دموي محطم لما تبقى من عناصر تلاحم الشعوب، مواصلة استنزاف الميزانيات والجيوب، ومحافظة في ذات الوقت على هيبتها وسطوتها، غير تاركة لآخرين ملأ أي فراغ قد يحدث من جراء تراجعها.

إن الولايات المتحدة الأمريكية وإن تعرضت للفشل تلو الآخر، فإنها لا تحبط، ولذلك لا ينبغي الاعتقاد أنها في وارد التخلي عن فرض مفاهيمها وقيمها ونموذجها الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط. إن عودتها ظافرة إلى فياتنام بعد كل الدماء التي سالت بين الطرفين، ومن باب التبادل التجاري والاقتصادي، والتعاون العسكري المناهض لما تروجه عن الهيمنة الصينية في جنوب شرق القارة الآسيوية خير دليل على كيفية تفكيرها ومنطق تدبيرها.