حين توفي الملك الحسن الثاني (محرر الصحراء الغربية للمغرب)، أعلنت الدولة الجزائرية الحداد 3 أيام.. حين توفي محمد عبد العزيز ("سلال" مخيمات تيندوف، بالمعنى الحساني لكلمة "سلال"، التي تعني مصاص دم أخيه، أو سارق ملامحه)، أعلنت الدولة الجزائرية، في اجتماع عال ترأسه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الحداد 8 أيام.. هنا، قالت القيادة الجزائرية الحالية، كل شئ. أنها، حتى وهي الوحيدة في العالم التي أعلنت الحداد على محمد عبد العزيز، لا تزال تعاني أعراض "العقدة المغربية". وأنها بذلك تواصل خصومتها مع روح أبطالها التاريخيين، الذين سقطوا على درب طريق الحرية والنخوة والكرامة، ضمن الجيل الوطني الجزائري والمغربي والتونسي، الذي كان يؤمن بفكرة "المغرب الكبير". ما يجعل المرء يتساءل بمرارة: أمن أجل مثل هذا السقوط الرمزي، دخل أولئك الشهداء الأرض، مثلما يندس الندى في تربة البلاد؟. أمن أجل هذا المستوى من العزلة، ومن الخطأ في قراءة الرمزيات، وفي تقييم المواقف، وفي الإنتصار لأمل الشعوب المغاربية، في حقها من أجل الوحدة والتكامل والأمن والتنمية والتقدم، سقط ديدوش مراد والعقيد لطفي وأحمد زبانة والعربي بن مهيدي وغيرهم كثير؟.
صحيح، كما أسر بذلك وزير أول جزائري سابق لمصدر مغاربي بباريس، أن الحال بالجزائر العاصمة، هي أشبه بالتواطؤ الصامت بين غرف سرية، في مجال اتخاد القرار، توثبا لما سيلي ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مما يفرض علينا في ضفتنا المغربية، أن لا ننساق وراء ردود قد تكون غير مفيدة لمصالحنا الحيوية كبلد ودولة ومجتمع، وقد تسيئ من حيث لا نحتسب لعمق وصلابة قوة علاقتنا مع الشعب الجزائري (الضحية الأكبر في خيارات سياسية مماثلة لحكومة بلده).. لكن، أن يصل "الخرف السياسي" بقصر المرادية هذه الدرجة من عدم تمييز المواقف، ومن الخصومة مع الماضي المشترك ومع المستقبل المستحق المأمول، فهذا عنوان أكبر لدرجة عمق الأزمة السياسية هناك.
إن حالة الراحل محمد عبد العزيز، تقدم الدليل الأبرز على الإختلاف في التدبير السياسي بين الرباط والجزائر، من حيث إن المسؤول الأول بجبهة البوليزاريو، هو أصلا من مواليد شمال المغرب، بنواحي مراكش، وأن كل عائلته ووالده الحاج الركيبي (الذي نعزيه بالمناسبة في ولده)، لا تزال مقيمة هناك، معززة، مكرمة بمغربيتها ووطنيتها وحقها الإنساني الكامل في العيش بكرامة. ولم يحدث، قط، أن نزلت الدولة المغربية في قرارها السياسي إلى مستوى الإساءة إلى العائلة، رغم كل مواقف ابنها تجاه المغرب والمغاربة. ترى، ماذا لو كانت القصة مختلفة بين تيندوف وفكيك، وأن المغرب هو الذي يحتضن حركة انفصالية ضد الوحدة الترابية للجزائر، هل كان سيكون مصير عائلة زعيمها مثل حال عائلة محمد عبد العزيز بالمغرب؟. إن العقلاء، رجال الدولة، هم الذين يميزون بين البيض، ولا يضعونه كله في سلة واحدة، لأن البيضة الفاسدة لا تليق لغير المزابل، ولا يرمى البيض السليم معها.
الأكثر استغرابا، حول فطنة الذكاء السياسي للقيادة الجزائرية الحالية، هو أنها وازت بين محمد عبد العزيز والزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، في أيام الحداد الرسمية، حتى والمسافة هائلة بين سيرة الراحلين. هي التي خانها المنطق السليم، أن مانديلا صار مانديلا، لأنه بقي مناضلا تحت سماء جنوب إفريقيا، باستقلال كامل للقرار السياسي الوطني والنضالي، حتى ولو كانت سماء البلاد هي سجن، في جزيرة نائية، بقي يكسر فيه الأحجار يوميا لأكثر من ربع قرن. وأنه لم يسكن في "العمالة" للغير، أو ظل يتلقى مصروف الجيب بالدولار، ويدخن السيجار الكوبي في فنادق الخمس نجوم، مثل حال "محمد عبد العزيز القيادة الجزائرية". الرجل، الذي خانته فطنة حكمة الصحراء، تلك التي لخص بعض روحها بيت الشاعر المصري، الجنوبي الأصيل، أمل دنقل: "إن اليد واهبة القمح/ تعرف أيضا كيف تسن سكين الذبح".
يا أسفاه على "ثورة الأحرار بالجزائر" أولئك الذين صعدوا جبال المجد فعلا، أن انتهت بها قيادتها، بين محفل الأمم، أن تنزل إلى حفرة مثل حفرة محمد عبد العزيز، وإلى العزلة في الرمزيات، هي التي نسيت حكمة شاعر تونس الكبير، أبو القاسم الشابي، في قصيدته الخالدة "إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلابد أن يستجيب القدر"، والتي يتضمنها بيته الشعري الآخر : "ومن لا يحب صعود الجبال/ يعش أبد الدهر بين الحفر". واضح أن القيادة الجزائرية نسيت نخوة وحكمة الأعالي.