يعد الأمن السياسي من أهم ركائز انطلاق واستمرار مسار التنمية ويتحدد برزمة من المقومات المحورية ذات البعدين الثقافي والاجتماعي. لا تقل أهمية حلقة الأمن السياسي عن حلقتي الأمن الاجتماعي والاقتصادي في لحمة سلسلة الأمن القومي، فلربما هو الأرضية التي يقوم عليها الأمن الاقتصادي ونظيره الاجتماعي لتحقيق واستدامة التنمية والازدهار.
يتحقق الأمن السياسي مع سمو سيادة البلد وأهله، انعدام التبعية للآخر، قيام وتحقق مبدأ العدل، تحقق العدالة الاجتماعية كواقع ملموس، ممارسة حرية التعبير، ضمان ممارسة حق الاختلاف والنقد، حضور الشرعية السياسية للحاكم، بناء مؤسسات تضمن استمرارية الدولة وعدم الاستفراد بالقرار وفرض الوصاية على المجموعة برمتها، بناء مجتمع مدني قوي ومتماسك يسوده الوعي والتحضر والمدنية قادر على مراقبة أداء النخبة الحاكمة، إلغاء عملية تقديس الأشخاص وكبح النزعات الفردانية وعقلنة الطاقات الفردية وتسخيرها لخدمة مصلحة الجماعة، تداول السلطة بطريقة سلمية وتلقائية تستمد من احترام رغبة الأفراد مقننة في برامج تحدد لرؤية تشاركية معينة للمستقبل.
مما لا شك فيه أن مفهوم الأمن السياسي يحيل على الاستقرار والهدوء والصمود أمام كل هزة مفاجئة أو تمرد قد ينبعث من النسيج الداخلي للمجموعة أو تهديد خارجي يستهدف استقرارها، إذ يتم احتواء كل التيارات أو النزعات بالانفتاح على الجانب الإيجابي منها وتذويب الجانب السلبي.
جميل كل ما سبق ذكره، لكن الأجمل هو رؤيته واقعا ملموسا في كيان مجموعتنا العربية التي، وللأسف، تخترقها وتمزقها ظواهر عدة غالبا ما تنبعث من مخيال اجتماعي وتراث ثقافي قد يصنف بالمعقد والمركب.
نعاني كما هو بين لدى الجميع من طغيان العصبية القبلية وفكر الزاوية اللذان يقدسان ويرسخان للفكر الفرداني وعملية الاستئثار بالحكم والقرار، وغالبا ما تسخر بعض القراءات الفقهية في تكريس الفكر نفسه. لذلك فالبنية السياسية القائمة هشة ترتكز عموما على شخصنة الدولة بدل ماسستها، وتضيع بذلك مصلحة الجماعة مع سلطة المصلحة الشخصية القائمة على مبدأي النفعية والغنيمة. كما يتم إلغاء تداول السلطة مقابل ركود سياسي قائم على أيدي نفس الفاعلين السياسيين رغم تغير الأدوار من صانع قرار إلى معارض. وغالبا ما يقترن الاستبداد السياسي بالاحتكار الاقتصادي إذ يتكاملان لخدمة مصالح نفس النخبة المقربة من الحاكم. من جهة أخرى يجب طرح مسألة الشرعية ومن أين تستمد، معظم الأنظمة القائمة (عسكرية أو مدنية) احتلت السلطة بالقوة والانقلابات ومحاباة الأنظمة الغربية للحفاظ على كراسيها. فتمدد الولايات الرئاسية وتعدل الدساتير حسب الحاجة وتصير الديمقراطية مظهرا صوريا لتغطية واقع الاستبداد والظلم بجميع أنواعه المستشري بالبلاد التي تنتقل من مرحلة الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر، بمعية نخبة يفرضها الغرب ويثبت جذورها في التربة المحلية خدمة واستدامة لهيمنته.
لاشك أن بناء الدولة الحديثة بالوطن العربي سيستغرق أمدا طويلا لوجود إكراهات محلية وخارجية معقدة ومتداخلة تجعل الحديث عن الأمن السياسي مجرد مسعى بعيد المنال .
إذا كان القانون يعلو ولا يعلى عليه، فإن الجماعة تعلو بنفس القدر والمقام ولا يعلى على ثوابت قيامها.