من خلال حالات العنف المدرسي الأخيرة التي بلغت ذروتها في واقعة الإيذاء العمدي، الذي طال أستاذة بالحي المحمدي من طرف تلميذ باستعمال شفرة حلاقة، برزت مادة "التاريخ والجغرافيا" في الواجهة، بعدما تبيـن أن بعض الأساتذة ضحايا العنف هم أساتذة تاريخ وجغرافيا بالسلك الثانوني التأهيلي، بدءا من "أستاذ ورززات" و"أستاذ الرباط" وكذا أستاذة الحي المحمدي، مما جعل بعض أساتذة التخصصات الأخرى يشيرون بالأصابع إلى أستاذ "الاجتماعيات" في بعض اللقاءات العرضية من باب المزحة والضحك، وكأنه هـو المسؤول عن العنف الذي وقــع أو الذي سيقـع، ونحن نرى أن الحالات الثلاث لم تكن إلا "مصادفة" ليس إلا بدليل :
- أن أستاذة التاريخ والجغرافيا بالحي المحمدي، تعرضت للعنف عند مدخل الثانوية التي تدرس بها وهي بصدد المغادرة إلى حال سبيلها، بمعنى أن الواقعة لم تطرأ بالقسم، بل عند مدخل المؤسسة، كما أن الضحية لم تتعرض للعنف بصفتها أستاذة للمادة (التاريخ والجغرافيا)، بل بعدما بلغ إلى علم المعني بالأمر أنها هي من تسبب له في العقوبة التربوية التي اتخذت في حقه في المجلس الانضباطي، على خلفية تعنيفه لأستاذة مادة "التربية الإسلامية" في وقت سابق .
- أن أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا بالرباط، تعرض للعنف عند باب القسم بعدما منع التلميذ/ الفاعل من الدخول لتأخره عن الحصة الدراسية ولكثرة تغيباته، وبالتالي فالمسؤولية في الواقعة يتحملها التلميذ الذي لم يحترم الضوابط التربوية، بل واجهها بالعنف، أما الأستاذ فلم يقم إلا بواجبه في إبعاد كل ما من شأنه عرقلة العملية التعليمية التعلمية .
- الحالة الثالثة والأخيرة، والتي تغلب فيها التلميذ على الأستاذ المتقدم في السن، وقعت في الفصل الدراسي، حيث تلقى هذا الأخير جملة من اللكمات من تلميذ متهور.. ومهما كانت ظروف وملايسات هذه الواقعة المؤسفة التي قادت التلميذ إلى ما وراء القضبان، فما صدر عن هذا الأخير غير مقبول ولا مبرر له بأي شكل من الأشكال، إذ كان عليه أن يقدر سن الأستاذ وأن يستحضر مكانته، بل كان عليه إذا لم يكن مهتما بالحصـة، أن يغادر إلى حال سبيله وأن يترك لزملائه فرصـة للتعلم، إذا ما كانوا فعلا يرغبون في ذلك .
- أنه وفي سياق حالات العنف الأخيرة، استهدف العنف المدرسي أطرا إدارية (مدير، حارس عام)، بمعنى أن هذا العنف إن صح التعبير لا لون ولا وطن له، فهو يضرب أين شاء ومتى شاء.. لذلك من الناحية الموضوعيـة وحتى من الناحية العلمية لا يمكن ربط العنف المدرسي بمادة من المواد أو بأساتذة مادة أو مواد دون مواد أخرى، في غياب أبحاث ميدانية ودراسات علمية رصينة تحيط بالظاهرة المدروسة من جميع الزوايا من حيث الأسباب والمسببات، والفئات والمواد المستهدفة وأمكنــة العنف (قسم، ساحة، محيط المؤسسة) وكذا أزمنته (حصة صباحية، حصص مسائية، بداية الأسبوع، نهاية الأسبوع).
لكن ورغم الإقرار بمصادفة الحالات الثلاث، فإن هذه المصادفة لا بد من حسن استثمارها واستغلالها من خلال "مساءلة" وضعية بعض المواد (على سبيل المثال لا الحصر) من قبيل التاريخ والجغرافيا واللغة العربية والفلسفة والتربية الإسلامية، التي وإن تباينت مناهجهـا ومرجعياتها الديدكتيكية، فإن التجربة المهنية أبانت أنها تشكل بالنسبة لعدد من التلاميذ مرتعـا خصبا لممارسة "الغش"، سواء في إطار المراقبة المستمرة أو الامتحانات الجهويــة أو الوطنيـة، بالنظر إلى اعتمادها على أشكال تقويمية تقليدية تسائل في مجملها الجانب المعرفي أكثر منه الجانب المنهجي والمهاري والمواقفي، وهذا الغش أضحى حقـا مشروعا لدى البعض، وأي مساس بهذا الحق "المزعوم" من طرف الأستاذ(ة) يواجه بالتصـدي الذي يبدأ عادة بردود فعل عبارة عن رفض ثم احتجاج فسب وشتم وتهديد ثم ينتهي بالعنف الجسـدي، كما أن المواد المذكورة تتلاقـى جميعها في "واقع الرتابة" في ظل مناهج وبرامج دراسية لم تبارح "السبورة" و"الطباشير" و"الكتاب المدرسي"، وبالتالي أصبحت متجاوزة في عالم يتغير يوما بعد يوم في جميع المستويات، ومنها ما يطرأ في "تكنولوجيا الإعلام والاتصال" من تحولات مستمرة.. ومن المخجــل أن تظل "السبورة التقليدية" حاضرة بقوة في العمليات التعليمية التعلمية في عالم متغيــر جعلت منه التكنولوجيا "قرية صغيـرة"، كما أن تلميذ(ة) امتلكته الوسائل التكنولوجية الحديثة (هواتف ذكية، حواسيب، انترنيت، مواقع اجتماعية، برامج وتطبيقات ... إلخ) لا يمكــن التعامل معــه إلا وفــق مقاربة بيداغوجية وديدكتيكية متفتحـة على الوسائل والوسائط التكنولوجية الحديثـة ومتفاعلــة منهــا .
إذن فعدم مواكبة هذه المواد، وأخرى، للتحولات الوطنية والإقليمية والدولية وعدم مسايرتها لتكنولوجيا الإعلام والاتصال وطرق التدريس الحديثة المبنية على "التعلم الذاتي"، يجعلها مواد رتيبـة وغير محفزة، بدليل ما تبرزه الملاحظة الفصلية من عدم الانتباه وعدم الاكتراث في الحصص الدراسية، إلى درجة أن الأستاذ(ة) يحس في حالات كثيـــرة أنه يغرد خارج السرب، ماعدا قلة قليلة من المتعلمين والمتعلمات الذين يحملون مواصفات التلميذ أخلاقا وسلوكا واهتماما، أما الأغلبية فهي تعاني ضعفا بنيويا يجعلها غير قادرة على تتبع مجريات العملية التعليمية التعلمية، حتى أن البعض لا يقوى على استخراج فكرة عامة أو استخلاص جواب من وثيقــة.. وعندما يتلاقى الضعف بعدم الانتباه وعدم الاكتراث بالمادة وعدم بدل أي مجهــود خارج الفصل، تتعمــق هوة الضعف والرداءة.. لذلك فالعنف المدرسي، لا يمكن أن يشعل فتيله إلا تليمذ(ة) ضعيف(ة) المستوى ويائس(ة) من المدرسة .
أخيرا وتأسيسا على ما سبــق، فالعنف المدرسي قبل التفكير في محاصرته وتطويقه، لا بد من تملك جرأة وضع "الأصبع" أو "الأصابع" على الظروف التي تحركه وتغذيه، ومن ضمنها "رتابة" بعض المواد المدروسة كما هو الشأن بالنسبة لمادة التاريخ والجغرافيا، حيث بناء على واقع الممارسة، يمكن وضع الأصابع على مجموعة من الوحدات الدراسية التي تكرس الرتابة بالنظر إما لطبيعة موضوعها أو بالنظر لتجاوزها من طرف أحداث لاحقــة مما يجعلها عديمة الجــدوى، سواء في التاريخ أو في الجغرافيــا.. ودون مساءلة هذه الوحدات الدراسية وغيرها، فإن الوضع القائم يستدعـي نفض الغبار عن المناهج والبرامج الدراسية الحاليــة، والاجتهاد في تحيينها وتجويدهــا بالنسبــة لجميع المــواد الدراسية، انسجاما مع طرق التعليم الحديثة وتفاعلا مع ما يشهده حقل تكنولوجيا الاعلام والاتصال من تحولات مستمرة، مع ضرورة التخفيف من كم البرامج الدراسية لأن العبرة في "الكيف" وليس في "الكم"، لتخليص التلميذ من كماشة الدروس وتمكينه من زمن مدرسي مناسب للتعبير عن المواهب وامتلاك القدرات والمناهج وغيرهـا، مع الإشارة إلى أنه إذا تمت مساءلة المناهج والبرامج الدراسية وخصوصيات بعض المواد ومنها مادة "التاريخ والجغرافيا" كنموذج..
فليس القصـد إيجاد مبررا لهذا العنف المدرسي المرفوض بشكل مطلق لا من جانب رجل التعليـــم ولا من جانب التلميذ(ة)، ولكــن القصـد، تغييـر ما يبدو "رتيبــا" و"عقيما"، لأن الرتابة والعقم يولدان الشرارة الأولى للعنف.