أكد القيادي الإتحادي محمد بنعبد القادر على أن إسبانيا وإن كانت تعيش وضعية غير مسبوقة في تاريخها الديمقراطي، غير أنه لا يمكن وصفها ببلوغ الباب المسدود، موضحا بأن الملك هو من بيده المفتاح بعد مرور الجولة الثالثة من المشاورات. وأضاف في حوار مع "أنفاس بريس" بأن خلفيات هذه الوضعية تعود لسببين رئيسيين، قبل أن يلفت إلى كون حركة "بوديموس" هي ثمرة أزمة وانسداد للأفق، وهي منتوج لمسارات فردية وفعاليات شخصية قوية، كما أنها أروع مثال على تطبيق تكنولوجيا الإعلام والاتصال في العمل السياسي. وفي جوابه عما إذا كان محتملا بروز "بوديموس مغربي"، شدد بنعبد القادر على عدم اعتقاده بأن اليسار المغربي الموجود خارج المنظومة التمثيلية بإمكانه إنتاج، في المنظور القريب والمتوسط، مفعولا سياسيا قويا شبيها بظاهرة "بوديموس"، بدليل أنه جرب المحاولة مع حركة 20 فبراير ولم يفلح في ذلك لأسباب بنيوية.
لم يسبق لإسبانيا أن عاشت فراغا مؤسساتيا مثلما تعيشه اليوم مند الفشل في تشكيل الحكومة عقب الإنتخابات الأخيرة، لماذا وصلت إسبانيا للباب المسدود؟
الوضعية التي تعيشها إسبانيا مند عدة أسابيع هي فعلا وضعية غير مسبوقة وليس لها مثيل في تاريخ الديمقراطية الإسبانية، فلم يسبق لمرشح مقترح من لدن قصر "لامنكلوا" لتشكيل ورئاسة الحكومة، أن فشل في انتزاع ثقة البرلمان، وقد كان من سوء حظ الزعيم الإشتراكي الشاب "بيدرو سانشيث" أن يكون أول من يتجرع مرارة هذه الخيبة، لكن هذا لا يعني أن البلد يعيش فراغا مؤسساتيا. فعندما تعجز "الأرتميتكا" الإنتخابية عن إفراز أغلبية مطلقة وملتفة حول المرشح المقترح من طرف القصر لتشكيل الحكومة، تعود الكرة آنذاك إلى ملعب الملك لإعادة فتح المشاورات في جولة ثانية، وهذا ما فعله فيليبي السادس عندما أبلغ رئيس الكونغريس، الإشتراكي "باتشي لوبيث"، عزمه على فتح مشاورات جديدة مع زعماء الأحزاب يومي 25 و 26 أبريل بعد فشل الإشتراكيين في جمع أغلبية حكومية، المشكلة الوحيدة التي أثارتها هده الوضعية وفتحت نقاشا دستوريا هي مدى خضوع حكومة راخوي المكلفة بتصريف الأعمال لرقابة البرلمان الحالي، حيث اعتبر الحزب الشعبي أن البرلمان الجديد ليس هو من انتخب هذه الحكومة وبالتالي فلا حق له في مراقبتها، وإلى حد الآن لا يمكن القول بأن الأمور آلت إلى الباب المسدود لأن الملك هو من سيقرر دستوريا بعد هده الجولة الثالثة من المشاورات، إن كان سيقترح مرشحا لرئاسة الحكومة تتوفر لديه الضمانات الكافية ليحظى بثقة البرلمان في آخر أجل لذلك وهو اليوم الثاني من شهر ماي، أو يلجأ إلى مسطرة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة في 26 يونيو. أما الأسباب التي أدت إلى هذه الوضعية فيمكن إجمالها في عاملين أساسيين الأول هو صناديق الإقتراع التي أفرزت لأول مرة بعد أربعين سنة من الديمقراطية خريطة تمثيلية جديدة ومستعصية، تكسر توازن الثنائية القطبية و لا تسمح بإفراز أغلبية أحادية أو حتى ثنائية، مما فتح شهية حزب "بوديموس" لممارسة أقصى درجات الابتزاز السياسي والضغط على الإشتراكيين لفرض شروطه التعجيزية متأثرا في ذلك بما جرى في اليونان والبرتغال، واليوم تحمل قطاعات واسعة من الرأي العام الإسباني مسؤولية إفشال المشاورات لتشكيل ائتلاف تقدمي واسع بزعامة الإشتراكيين إلى حزب "بوديموس"، أما العامل الثاني الذي يمكن أن يساعدنا في فهم هذه الوضعية فهو يتعلق بخصوصية النظام البرلماني الإسباني حيث أن رئيس الحكومة ينتخب من طرف مجلس النواب، ورغم أن الحزب الحاكم فاز في الانتخابات فقد وجد نفسه خارج الأغلبية البرلمانية.
من مفاجآت الإنتخابات الأخيرة صعود "بوديموس" الذي هللت له العديد من الأصوات معتبرة إياه نهاية الأحزاب التقليدية ونهاية هيمنة يمين يسار، هل تشاطر هؤلاء الرأي؟ ولماذا؟
أعتقد أنه يجدر بنا أولا فهم نشوء هذه الظاهرة في سياقها الخاص وتحليل حيثيات تطورها وتفاعلاتها قبل إصدار الأحكام عن أثرها المفترض في المشهد السياسي العام، هناك طبعا السياق الخاص الذي أدى إلى البروز ثم الصعود المثير لـ"بوديموس" في المشهد الإنتخابي الإسباني، ويمكن إجماله في الأزمة المالية التي استغرقت ثماني سنوات وألحقت أضرارا سوسيواقتصادية بالغة بالطبقات الشعبية والمتوسطة، ثم هناك أزمة المشروعية التي أصابت الطبقة السياسية في إسبانيا أو على الأصح تآكل مصداقيتها بفعل توالي الفضائح المرتبطة بنهب المال العام واستغلال النفوذ أمام تراخي الأحزاب التقليدية في تطهير صفوفها وفرض نوع من الصرامة الأخلاقية على مناضليها الذين لهم انتداب إنتخابي أو تنفيذي. وكما يحصل كلما اشتدت الأزمات يطغى التشكي والتظلم من الفساد العام، وتتفوق في المقابل بلاغة التخليق والطهرانية التي تدين الجميع عبر خطاب رسولي تفوقي، كما حصل بالأمس إبان صعود الحركات الشمولية في أوروبا، واليوم مع الحركات المتياسرة في اليونان والبرتغال واسبانيا، وكلها تنهل من قاموس الخلاص والحلول الجذرية، وهذا بالضبط ما ورد في البيان التأسيسي لنشوء حركة "بوديموس" التي لم تخف أنها جاءت لنسف تكتل الفساد و القطبية الثنائية.
أما اذا أردنا التعمق أكثر في مقاربة هده الظاهرة فهناك بعض المؤشرات التي تساعدنا على فهم أفضل لظاهرة "بوديموس"، ويمكن اختزالها بتركيب شديد في خمس محطات أساسية.
فهناك في أصل الظاهرة استلهام حاسم لروح حركة 15 ماي من خلال نص البيان الناري الذي أصدره في يناير 2014 حوالي ثلاثين مثقفا وناشطا سياسيا من بينهم المؤسسون لاحقا لـ"بوديموس" والذي أعلنوا فيه عزمهم على نسف نظام الثنائية القطبية الموزعة ما بين الحزب الشعبي اليميني والحزب الاشتراكي العمالي الإسباني اليساري، معلنا تعبئة طاقات كل الناقمين indignados ضد الذين اختطفوا الديمقراطية الإسبانية.
وهناك شخصية "بابلو إغليسياس" الذي وإن لم يكن من الموقعين على البيان، فقد فرض نفسه كشخصية محورية في تفعيل مضامينه وبالتالي ترؤس لائحة بوديموس للإنتخابات الأوربية في2014 ، التي حصلت على خمس مقاعد في البرلمان الأوروبي، فهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة "كومبلوتينسي" بمدريد وارتبط سابقا بحزب اليسار الموحد، والملحوظ أن صعود "بوديموس" تمحور إلى حد بعيد حول نوع من شخصنة الظاهرة واختزالها في شخصية "بابلو" وبروزه المشهدي اللافت في الساحة السياسية والإعلامية.
ثم هناك الثنائي مونيديرو/ايريخون، وهما وجهان أساسيان في نشأة وتطور "بوديموس"، الأول هو أحد المحررين الأساسيين للبيان التأسيسي وكان مستشارا لزعيم اليسار الموجد "غاسبار يماساريس" من2000 الى2005، وأحد العارفين بشؤون اليسار الجذري في إسبانيا وتطلعاته الوليفارية، التي يعتبر من أنصارها المتحمسين، أما الثاني فقد اختاره "إغليسياس" لقيادة الحملة الانتخابية لـ"بوديموس" في الأوروبيات، شارك منذ بداية القرن في عدة تظاهرات مناهضة للعولمة وهو يركز أبحاثه الجامعية على سياسات "إيفو موراليس" في بوليفيا.
لا يمكن تفسير ظاهرة "بوديموس" دون الرجوع إلى دور التلفزة والشبكات الاجتماعية حيث أن السيطرة على المشهد التلفزي والحضور القوي في الشبكات الإجتماعية هي أيضا من المفاتيح الأساسية لفهم تطور ظاهرة "بوديموس"، إذ نجد الزعيم "بابلو إغليسياس" قبل تأسيس "بوديموس" منشطا رئيسيا لبرامج حوارية في بعض القنوات، وخطيبا بارعا يتقن فنون البلاغة السياسة وتقنيات الحجاج ويتفاعل على نطاق واسع مع رواد الشبكات الاجتماعية.
وأخيرا هناك النموذج التنظيمي الذي اتخذته "بوديموس" في شكل دوائر مستقلة ضمن بنية أفقية، حيث حاولت حركة "بوديموس" أن تظهر منذ البداية بمظهر التنظيم الدي يتميز عن بنية الأحزاب التقليدية بمنهجيته التشاركية الأفقية القائمة على استقلالية الدوائر والمجالس القاعدية المنفلتة من السيطرة المركزية، غير انه مند نجاحه في الانتخابات الأوروبية بدأ ينحو منحى الأحزاب التقليدية في بنيتها التنظيمية الهرمية.
خلاصة الأمر أن "بوديموس" هي ثمرة أزمة وانسداد للأفق، وهي منتوج لمسارات فردية وفعاليات شخصية قوية، وهي أروع مثال على تطبيق تكنولوجيا الإعلام والاتصال في العمل السياسي، حيث أبانت عن مهارة فائقة في تفعيل مفهوم الأغورا الالكترونية بالرغم من تعقيداته التقنية ومخاطره السياسية، و"بوديموس" هي أيضا وصفة إيديولوجية جاهزة مستوحاة من أفكار الفيلسوف الإيطالي الماركسي "أنطونيو غرامشي" ومن أطروحات المنظر السياسي الأرجنتيني "أرنستو لاكلاو" خاصة منها ما يخص الشعبوية والهيمنة، حيث نجد أفراد النواة الصلبة المؤسسة للحزب اشتغلوا في بوليفيا والإكواتور وفينيزويلا، وأنجزوا كلهم أطروحات جامعية حول هذه المجتمعات. فالرجل الثاني في التنظيم أنجز أطروحته حول بناء الهيمنة عند "إيفو موراليس" في بوليفيا، وهو مفهوم يعتمد على استقطاب المرشحين واستيعاب الحركات بدل إقامة تحالفات، الزعيم "بابلو إغليسياس" اشتغل كثيرا على نظرية "مابعد العمالية"وتأثر بفكرة إبستمولوجية الجنوب للسوسيولوجي البرلتغالي "بوينافنتورا دي سوسا سانتوس". وعموما فإن من يرغب في فهم الدينامية التي خلقتها حركة "بوديموس" في المجتمع السياسي الإسباني عليه أن يطلع على كتابين أساسيين لعالم السياسية وملهم الحركة ارنستو لاكلاو، وهما "العقل الشعبوي" و"الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية".
تداعيات بروز "بوديموس" لم تقتصر على إسبانيا، بل كان للأمر صدى بالمغرب بالتنظير لإمكانية بروز "بوديموس مغربي"، هل فعلا التربة المغربية مؤهلة لهذا الّإستنساخ، علما أننا في سنة انتخابية وموعد 7 أكتوبر على الأبواب؟
في الحقيقة لم يكن هناك تنظير في هذا الاتجاه، وإنما مجرد ارتسامات إعلامية ذات صبغة انبهارية، وأحيانا تكون هناك بعض التصريحات لفاعلين سياسيين تكشف عن لا شعور سياسي دفين أكثر مما تعلن عن رؤية مستقبلية. إن الذين يعتقدون أنهم لمجرد تموقعهم على مسافة ما من المؤسسات السياسية سيتحولون بقدرة قادر إلى "بوديموس" مغربية واهمون وحالمون، والمثير في الخبطة الإعلامية لهؤلاء أن تنظيماتهم التي تعلن صباح مساء رفضها للفساد والاستبداد والإصلاح والانتقال والانبطاح والتناوب والتحالف والانحراف .... لاتقدم فكرة سياسية واحدة لتفعيل هدا الرفض خارج الشحنة الأخلاقية التي تبعث بعض الدفء في مفاصلها، نعم فكرة سياسية واحدة واقعية وإجرائية وابتكارية لتحريك الخطوط وقلب موزين القوى، "بوديموس" جاءت من خارج النسق السياسي في إسبانيا وأنتجت مفعولا مدويا، أما في المغرب فتوجد تشكيلات يسارية خارج النسق مند خمسين سنة إلى درجة أنها أصبحت بفعل الأقدمية جزءا لا يتجزأ من هذا النسق، ومع ذلك فهي لا تنتج مشاريع جديدة ولا تطلق أفكارا خلاقة، وأنا لا أعتقد أن اليسار المغربي الموجود خارج المنظومة التمثيلية يمكن أن ينتج في المنظور القريب والمتوسط مفعولا سياسيا قويا شبيها بظاهرة "بوديموس"، فقد جرب المحاولة مع حركة 20 فبراير ولم يفلح في ذلك لأسباب بنيوية ليس هنا مجال بسطها، أما إذا انطلقنا من البراديغمات المتحكمة في ظاهرة "بوديموس" الإسبانية لطرح فرضية حدوثها في المغرب، فدعني أقول لك إننا عشنا نفس الحالة تقريبا منذ دستور2011، عشناها مع حركة بمواصفات "بوديموس" لكنها حركة محافظة ورجعية، فهناك الشخصنة المفرطة كظاهرة إعلامية متمثلة في شخص زعيمها، وهناك بلاغة إدانة الجميع والتبشير بالتخليق والخلاص، وهناك ما يسمى بالجيش الإلكتروني، وهناك أطروحة الهيمنة الثقافية "الغرامشية" لكن عبر استغلال المساجد وشبكات الإحسان وجمعيات مدرسي التربية الإسلامية، وهناك الولاء للمرجعية الإخوانية في قطر على غرار ولاء "بوديموس" للمرجعية البوليفارية في فينيزويلا، وهناك التشابه القوي في سرعة الصعود.. كما سيكون هناك قريبا تشابه في سرعة النزول أيضا!