يرى الأستاذ يوسف احنانة، باحث في تراث الغرب الإسلامي، أن المذاهب الوافدة من وهابية ونزوعات إخوانية عاثت في المغرب فسادا. واعتبر يوسف احنانة قرار مراجعة إصلاح المنظومة التعليمية في شق التربية الدينية قرارا محمودا سيصالح المغاربة مع موروثهم الديني القائم على الانفتاح وليس الخرفات.
+ أمر الملك في المجلس الوزاري الأخير كلا من وزير التربية ووزير الأوقاف بمراجعة مناهج ومقررات التربية الدينية بما يتلاءم وإشاعة قيم الإسلام الحقيقية القائمة على التسامح. ما الذي جعل السلطات في نظرك تنتبه إلى أن تعليمنا كان مضخة للتطرف وتوفير البيئة الملائمة للتشدد؟ هل كان ذلك صحوة ذاتية، أم هناك ضغط خارجي؟
- الحقيقة أن الأمر يمكن اعتباره من فضائل وحسنات جلالة الملك محمد السادس. ففضيلة مراجعة الذات، والمصالحة معها، وتصحيح ما تراكم من الأخطاء مطلوبة في جميع نواحي الحياة ومجالاتها. فالمنظومة التعليمية المغربية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وهي تعرف انحرافات وانزلاقات لاسيما فيما يتعلق بمادة التربية الإسلامية. ولعل مرد ذلك إلى اختراق المذاهب الوافدة من وهابية، ونزوعات إخوانية، كانت تروم جميعها تخريب المعمار المذهبي للبلاد فعاثت فيه فسادا وأي فساد حتى بتنا ونحن المغاربة المنتمين إلى عقيدة سنية أشعرية، وفقه مالكي، وتصوف سني، نحس أحيانا بالغربة وكأننا في بلد حنبلي العقيدة والفقه أو شافعي الفقه، أو يعيش استلابا دينيا متمثلا في تمثل تدين مشكل تشكيلا غير متناغم ولا منسجم بدا عليه الترقيع والانتقاء غير الممنهج الذي لا يستقر على قرار. من هنا يحق لنا القول إن الحديث عن مراجعة أو تصحيح المسار أو إرجاع الأمور إلى سابق عهدها ذو ملحاحية وواقعية إذ أننا ساعتها سنعرف بالحقيقة إلى أين نسير.
إن غايات منظومتنا التعليمية المصرح بها لاسيما المرتبطة منها بالتربية الإسلامية تصرح بأنها تنوي أن تنتج لنا في نهاية المسار التعليمي مواطنين صالحين متشبثين بهويتهم الدينية والثقافية والوطنية واللغوية متسمين بالتسامح والاعتدال في كل شيء والانفتاح على العالم وثقافة الآخرين، لكننا في المقابل صرنا ننتج التشدد والتطرف والعقلية الخرافية.
وسأضرب مثالا قريبا جدا وهو ما اصطلح عليه، منذ بضعة أسابيع، بهمهمة السماء.. فقد قام أحد الأشخاص بفبركة أصوات غريبة، ونسب أن أشخاصا سمعوها تصدر من السماء، وما هي إلا لحظات حتى انطلق سيل من التعليقات في الفايسبوك تعتبر أن ذلك من أشراط الساعة. والغريب في الأمر أن معظم من سار في هذا الاتجاه كان من الجامعيين.
هذا مجرد مثال على نموذج المنتوج الذي تنتجه المنظومة التعليمية المغربية. أما أن يكون أمر المراجعة والتصحيح راجعا إلى ضغط خارجي، فلا أظن ذلك، فالاعتراف بالخلل فضيلة وأفضل منه السعي إلى تصحيحه.
+ أين تكمن مضامين الغلو والتأويل الظلامي في مقرراتنا التعليمية؟ وما هي الأوجه التي تقترح أن ينصرف إليها اهتمام السلطات لتطهير المناهج التعليمية من مظاهر الطلبنة والدعشنة والأخونة؟
- في البداية لابد من التأكيد على أن إنتاج المقررات التعليمية لا ينبغي أن يقتصر على دفتر تحملات عبارة عن ورقة تقنية فقط بل لابد من المصاحبة والتتبع لعملية الإنتاج حتي صدوره وإخراجه ولتستبعد جميع الاعتبارات الربحية والتقسيمات المعيارية على دور النشر. فمادة التربية الإسلامية فيها من الحساسية والخطر أكثر من المواد الأخرى، مما يستدعي مزيد حيطة وحذر.
ثم إن عدم الانشداد إلى ثوابت البلاد المذهبية وعدم المراهنة عليها في المقررات والمناهج التعليمية أفرز، ويفرز باستمرار، هذا التذبذب المذهبي وهذا التشدد والغلو في الأحكام الشرعية. فالتأويل الذي يعتبر أن العمل شرط في الإيمان ولا يفصل بينهما من شأنه أن يخلق تكفير المسلمين للمسلمين. وكما أن اللبس في مفهوم الجهاد من شأنه أن يخلق ظاهرة قتل المسلم للمسلمين بذريعة الجهاد وكذا قتل الأجانب الأبرياء. أضف إلى ذلك أن عدم تحديد معنى البدعة يخلق انفصاما في المجتمع الإسلامي، حيث يشرع التبديع لكل شيء حتى ما هو من الدين ومن مقوماته.. وكل هذا أفرز لنا الشطط والتعنت والتطرف والإفراط والغلو، وقس على ذلك أشياء أخرى ليس هذا محل بسطها.
لذا نقترح أن تتضافر جهود القائمين على هذا الشأن في استحضار ثوابت الهوية الدينية في المغرب بخصائصها وملامحها وأهدافها وغاياتها حتى نتمكن من إنتاج مقررات دراسية منسجمة مع ملامح الإنسان المنشود تكوينه وتخريجه في نهاية أسلاك التعليم.
+ هناك طبقات متعددة في التعليم: التعليم التابع للأوقاف ثم التعليم الأصيل ثم شعب الدراسات الإسلامية بكليات الآداب وكليات أصول الدين... إلخ وهذه الطبقات معظمها مخترق من طرف الحركة الأصولية بشقيها السلفي المتشدد والإخواني. كيف يستقيم الحديث عن تطهير المقرر التعليمي في ظل هذا الزحف؟ ومن أين للدولة بالموارد البشرية بصفاء التدين المغربي؟
- الواقع أنه ينبغي أن نتكلم بصراحة تامة وأن نسمي الأشياء بمسمياتها، فالاختراق الوهابي للمنظومة التربوية المغربية له عقود، والسكوت عليه ومؤامرة الصمت لها عقود كذلك. ونحن حينما نتكلم عن المنظومة التربوية المغربية لا نقصر كلامنا على مفهوم المنهاج كما استجد في أدبيات علوم التربية، بل أقصد كل ما يسهم في ترسيخ مواقف الناس وتكريس نوع من التدين لديهم.. فأفلامنا بوعي أو بغير وعي تقدم وضعيات معينة تكرس من خلالها نموذجا من نماذج التدين غير المغربي من صلاة وأدعية وتلاوة قرآن... فحين تتم مشاهدة هذه الوضعيات من طرف الملايين من المغاربة لا بد أن تساهم في تكريس الفتنة الدينية. وقس على الأفلام المسلسلات والأفلام القصيرة والمسرحيات، ناهيك ببعض برامج الأجوبة الدينية عن أسئلة المواطنين المباشرة على أمواج إذاعات خاصة في المغرب بمسحة وهابية وشافعية بعض الأحيان وعلى غير مذهب البلاد، من غير حسيب ولا رقيب.
أما ما يتعلق في سؤالكم بطبقات التعليم أو أنواعه في المغرب فيكفي أن نتكلم بصراحة عن بعض الكليات والمؤسسات التعليمية العليا التي أحدثت لغايات نبيلة، فهل أخرجت لنا كلية الشريعة مثلا علماء مالكيين ينافحون عن المذهب ويذبون عنه ويصنفون في مصاف العلماء المالكية؟ وهل خرّجت لنا كليات أصول الدين علماء كلام أشعريين يدافعون على المذهب الأشعري السني ويقعدون له ويبسطون مضامينه ويكيفونها مع سياق العصر؟ وهل أنتجت لنا دار الحديث الحسنية علماء حديث مبرزين في علوم الحديث رواية ودراية ويؤسسون لمدرسة مغربية في الحديث؟...
أما التعليم العتيق الذي تشرف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ففيه نموذجان، نموذج مغربي حتى النخاع وهو الذي يستحق تسمية التعليم العتيق حسا ومعنى وهو السائد في جنوب المغرب وفي البوادي بخاصة، أما ما هيمن عليه اللوبي الوهابي فهو يخدم أجندة وهابية سلفية متشنجة ويدين بالولاء للمذهب الحنبلي وللسعودية راعيه، وحتى إن وجدتهم يدرسون مؤلفا مالكيا فهم يدرسونه من باب انتقاده أو من باب التماس الآراء الشاذة في المذهب المالكي وإغفال ما قال به جمهور المالكية لآن ذلك قد يتقاطع مع المذهب الحنبلي أو يوشك أن يفعل.
إننا رغم كل هذا وذاك متفائلون خيرا، وسنظل كذلك لأننا نعتبر أن الزحف الأصولي على معمارنا المذهبي وعلى هويتنا واختياراتنا الدينية مجرد زبد سرعان ما يزول وأن ما ينفع المغاربة فماكث بإذن الله. والذين باعوا ضمائرهم وذممهم للسعودية أو للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين أو لتركيا أو لإيران بالمال وبالبترودولار ستجف منابعهم وسيعلمون أن الله حق، وأن للبيت ربا يحميه وأهلا قادرين على الوصول به إلى بر الأمان.
+ الملاحظ أن بلاغ المجلس الوزاري استعمل لفظة التربية الدينية وليس التربية الإسلامية. هل يعد ذلك إعلان الحرب على معجم الحركة الأصولية؟
- الحقيقة أنني أرى أن استعمال التربية الدينية بدل التربية الإسلامية من باب استعمال العام محل الخاص، ولهذا الاستعمال مبرراته في نظرنا المتواضع.. فالمغرب بلد راع لديانات سماوية غير الإسلام، فهناك المغاربة اليهود وهناك المسيحيون الذين يتابعون دراستهم في المدارس المغربية أو التي تحت الوصاية المغربية.. فاستعمال التربية الإسلامية على هؤلاء المخالفين لنا في الملة والدين كأن فيها إقصاء لهم أو إلزامهم بما لا يلزمهم، لذا وجب استعمال التربية الدينية في هذا السياق. ومن جهة أخرى فإن التهذيب الديني أو التربية الدينية تنصرف قبل كل شيء إلى منظومة القيم والمواقف الدينية التي أعطتها جميع الديانات السماوية الأولوية على العبادات فكان تركيزها على تكوين الإنسان وحسن تربيته ليسهل عليه اندماجه مع الجميع مهما اختلفت إثنياتهم وثقافاتهم ودياناتهم وأجناسهم وجنسياتهم.. وهذا ما يجعلنا نكون ما نحن إياه متسامحين ومتعايشين ومتضامنين ومتعاونين نرنو تنمية الأفراد والمجتمعات اقتصاديا وعلميا وإنسانيا وهذا هو مفهوم التربية الدينية.