رسالة أمير المؤمنين إلى مؤتمر مراكش حول «حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية: الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة»، (25 يناير 2016)، والتي جاء فيها: «إن تدبيرنا للشأن الديني في المغرب، في الوقت الراهن، يجعل من أهدافه الأساسية منع العبث بتأويل النصوص الدينية، ولاسيما ما يتعلق منها بالجهاد، الذي أصدر فيه علماؤنا بيانا قويا قبل أسابيع». هذه الرسالة وما تلاها في كلمة الأستاذ أحمد التوفيق، من إشارة إلى الغاية من اهتمام علماء الإسلام بأسباب النزول للوحي وللنوازل المستجدة، حيث قال: «والغرض من هذا الاهتمام بأسباب النزول، الحرص على الفهم والحرص على الإصابة في الحكم على ذلك الأمر الواقع، والفهم والإصابة في الحكم لهما ارتباط وثيق بالسياق». وبهذا يكون الأستاذ التوفيق قد التحق بالأستاذ أحمد عبادي بالانشغال بـ «السياق»، وإن كان هذا الالتحاق يفرض من باب المقاربة المندمجة، إعمال هذا السياق في تدريس التعليم العتيق.
كل هذا يستدعي منا بعض التأمل، أولا في إرادة صاحب الأمر لـ «منع العبث بتأويل النصوص الدينية، ولاسيما ما يتعلق منها بالجهاد»، وفي توصيفه ثانيا لمنجز المؤسسة العلمية في هذا الباب، على ضوء وظيفتها المفترضة، وثالثا في ضرورة استحضار السياق في تشكل الأحكام والاجتهادات.
1- بالنسبة لإرادة صاحب الأمر، فتذكرنا بقوة خطاب العرش لسنة 2015، في الجانب الديني بقوله: «فهل هناك سبب يدفعنا للتخلي عن تقاليدنا، وقيمنا الحضارية القائمة على التسامح والاعتدال، واتباع مذاهب أخرى لا علاقة لها بتربيتنا وأخلاقنا؟ طبعا لا. فلا تسمح لأحد من الخارج أن يعطيك الدروس في دينك..». ومازلنا ننتظر مقتضى هذه الإرادة في تجاوز حالة الترهل والتيه، في وظيفة هيكلة الحقل الديني، أمام تخوفات تكييف الموضوع على مقتضى ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية، وما تلاها من تمرينات سياسية في مختبر حزب «الحركة الديمقراطية الاجتماعية»، لإدماج السلفيين سياسيا على أرضية المعتقد الوهابي، والتي يُخشى تتويجها في مؤسسات الحقل الديني، بالنظر إلى التحكم الأصولي الموجود سلفا في هذه المؤسسات. وما بين هذين المنعطفين، كان هجوم الأصولية على الزوايا وعيد المولد النبوي من قناة «إياك أعني واسمعي يا جارة»، مما يؤشر على أن تراخي انتظامية دورة الزمن الإصلاحي، إنشاء ومواكبة وتقييما من جهة، وإحكام القبضة الأصولية العسكرية، على مجمل الحياة العامة من جهة أخرى، سيشوشان سلبا في أحسن التقديرات، على جذوة هذه الإرادة السامية. فكم سيلزمنا من الوقت للحسم في مقتضى خطاب العرش، للمرور إلى الحسم في مقتضى رسالة مؤتمر مراكش؟! أكيد أن مسؤولية الجهاز التنفيذي في تصريف أعباء مرجعية إمارة المؤمنين جسيمة في هذا الباب، قبل المرور إلى مشروعية التساؤل عن مدى صلابة إرادة الإصلاح الديني في العهد الجديد.
2- إشارة الرسالة الملكية إلى بيان السادة العلماء، تحيل على «فتوى حول الجهاد»، كان قد أصدرها المجلس العلمي الأعلى في 14 نونبر 2015، بشأن هجمات باريس الإرهابية. وهذا البيان وهو يميز بين أنواع «الجهاد الشرعي»، من «جهاد النفس»، و«الجهاد بالفكر» و«الجهاد بالقلم» و«الجهاد بالمال»، حصر «الجهاد بالسلاح» في حالة «الضرورة القصوى» لمواجهة الاعتداء، وهو «لا يكون إلا بأمر من الإمام الأعظم». وخارج هذا التحديد، فنحن أمام «إرهاب وعدوان وترويع للآمنين وإزهاق لأرواحهم البريئة. وهذا محرم تحريما قطعيا في الإسلام». لكن هل في غياب استراتيجية لفقه السياق، في مجمل الوظيفة المفترضة للمؤسسة العلمية في التأصيل لمتطلبات البناء الوطني، يمكن حل إشكالية مفهوم الجهاد -في ظل حظر عملي لكل قراءة تنويرية لموروثنا الديني- ببيان يتيم، بالرغم من قيمته السياسية، في علاقة المغرب بفرنسا، وبكل الجوار الإنساني؟
3- على أهمية الوعي بالقراءة السياقية للنصوص المؤسسة، ولأنماط الإنتاج الفقهي، كما شدت الانتباه إليه الرابطة المحمدية للعلماء، فإن هذه المقاربة، إلى جانب إغفالها لمنهجية «السبر والتقسيم»، لم يتم إعمالها لحد الآن رسميا، في أي عمل مخبري. وقد سبق أن طالبت رابطة العلماء، في مقال: «مطلب الاجتهاد في ظل مأزق الحاكمية» (الأحداث المغربية 5/2/2014)، بإنجاز قراءة في الناسخ والمنسوخ، لمواجهة من يعتبر -خارج السياق- أن آيات القتال قد نسخت آيات الرحمة.
ويمكن الوقوف على تشكل مفهوم الجهاد في اتجاه التدافع الإيديولوجي السلمي، ما نص عليه أبو عبد الله محمد الطرنباطي الفاسي، بشأن الانتقال من الجهاد بالسنان، إلى النضال باللسان، وهو يستعرض منشأ علم العقائد بقوله: «..انتهض علماء الأمة، وعظماء الملة، إلى مناضلة المبطلين باللسان، كما كان الصدر الأول يناضلون عن الدين بالسنان، وأعدوا لجهاد المبطلين ما استطاعوا من قوة، فاحتاجوا إلى مقدمات كلية، وقواعد عقلية، واصطلاح وأوضاع يجعلونها محل النزاع، ويتفهمون بها مقاصد القوم عند الدفاع، فدونوا ذلك وسموه علم الكلام وأصول الدين ليكون بإزاء أصول السابق». ويقصد الطرنباطي بالسابق هنا «أصول الفقه»، للاحتياج «إلى استنباط المسائل المتجددات والجواب عن كل نازلة إلى مقدمات كلية..». وبهذا نفهم قوله (ص): «طالب العلم أفضل عند الله من المجاهد في سبيل الله». وبهذا نفهم قول الإمام علي (ض): «العالم أفضل من القائم المجاهد..». وتبقى هذه الأفضلية مقيدة في سياق تطور تشكل معنى الجهاد. وبهذا نفهم من وجه تأكيد الأستاذ التوفيق في كلمته السابقة على «أن العلماء هم المعنيون بتأويل النصوص»، وهو يستحضر آفات التراث الإسلامي الثلاثة: «الجهل والانتحال والتطرف». ونفهم من وجه آخر، طبيعة معادلة بناء القوة في موازين العلاقة الدولية من خلال لسان أب الأمة سيدي محمد بن يوسف: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وذلك في مجاهدة/جهاد بناء الدولة الوطنية الديمقراطية. وبالتالي نعرف لماذا نحلي أسماء كبار مناضلي الحركة الوطنية من أجل الاستقلال بتحلية «المجاهد»، ولماذا نحلي آباء المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، بذات التحلية، وفي طليعتهم مولاي موحند (ابن عبد الكريم الخطابي)، وهو يحتضن من موقع العالم العضوي، بندقية ميلاد فلسفة التحرير الشامل للبلاد.
هل أدركنا رونق كيمياء مفهوم الجهاد/النضال، بين الفقه السياسي، في تناغم مع المشرب الصوفي في الميراث الحسني (نسبة إلى سيدنا الحسن خامس الخلفاء الراشدين)، بقطبانية مدرسة أهل البيت وزعامتها في المغرب، وبين أصول الدين، في تناغم مع أصول الفقه؟ أما سوسيولوجية المفهوم، فتلك قصة أخرى، مع معادلة احتلال الثغور المغربية، كالعرائش والمعمورة وطنجة وسبتة. -إما لفراغ أو ضعف في السلطة المركزية، أو لاعتبارات مهام بناء مفهوم سيادة الدولة- في ظل التساؤل التالي: هل جماعة المسلمين تتنزل منزلة السلطان، أم لا؟ كتب النوازل عندنا تدرجت أجوبتها في أفق تمكين الدولة من احتكار السلاح واستعماله في مهام حفظ السيادة الوطنية. واليوم نناضل كأفراد وجماعات للانتقال من مطلب حقوق الإنسان، إلى مطلب حقوق المواطن، في ظل سيادة القانون والاختيار الديمقراطي للبلاد.
وسنبقى في ظل انكفاء المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لصاحب الأمر، ننتظر على الوجه الآخر للصورة، مقتضى خطاب العرش على مستوى إعادة تقويم وظائف الحقل الديني، كما ننتظر مقتضى الرسالة الملكية لمنع العبث بتأويل النصوص الشرعية. ننتظر، والحال أن الخناق يضيق علينا يوما عن يوم جميعا، مجتمعا ودولة. "اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون"!
أما مزيد التفاعل مع الموضوع فسنرجئه إلى مقال: «الجهاد بين تحديد الماهية الشرعية، وغلبة التوظيف الأصولي»، من خلال إطلالة مؤرخ للمغرب الأوسط في القرن19م، لما حلى الأمير عبد القادر بالمجاهد، في حين اعتبر بوعمامة، مجرد ثائر على فرنسا، والسبب أن بوعمامة عمد إلى حرق بعض المدنيين الإسبان. وهذا في نظر هذا المؤرخ حرام، لأنه حسب قوله، «لا يعاقب أحد أحدا بالنار ويجازي بها إلا الله سبحانه». إنها سلطة المؤرخ، وهي في حاجة إلى سلطة العالم والمثقف والسياسي والإعلامي.. لعصمة الدماء. "قل انتظروا إنا منتظرون"!