ذكرت جريدة "الصباح" المغربية في عددها ليوم 26 يناير 2016، أن السيد عبد الاله بن كيران رئيس الحكومة المغربية لم يتردد بصفته الحزبية كأمين عام حزب العدالة والتنمية في وصف السيد إلياس العمري المنتخب حديثا أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة بـ"البانضي" وهو مفهوم متعدد التأويلات، مضيفا بأنه يمارس السياسة بالمناورات والدسائس.
ومن دون أن يفصح السيد بن كيران عن الكيفية التي يعتزم بها مواجهة هذه "اللصوصية السياسية"، إذا كانت يعتزم المواجهة فعلا، انتقل إلى مهاجمة حزب الأصالة والمعاصرة ككل، متهما إياه بأنه من الأحزاب التي تسعى إلى نهب البلاد من خلال إفساد العقول والسلوكات، ومراكمة الأموال والثروات، متسائلا مرة أخرى عن مصدر ثروة أمين عام هذا الحزب، والكيفية التي جمع بها 65 مليون درهم، التي استثمرها في مشروعه الإعلامي المتكامل.
وما أحجم السيد عبد الاله بن كيران عن ذكره في هذا الصدد لاعتبارات يدركها هو فقط، نابت عنه فيه عدة مواقع للتواصل الاجتماعي منتمية إلى حزبه أو متعاطفة معه، وبعض المواقع الإخبارية الإلكترونية عندما روجت لشعارات تشير إلى أن "أموال الإمارات لن تؤثر في حكومة المنجزات"، معلنة بشكل لا لبس فيه أن جهات إماراتية لم تذكرها ولم تحددها، هي التي تقف وراء المشروع الإعلامي، الذي تساءل السيد بن كيران عن مصادر تمويله دون إبداء أي رأي في ذلك، ودون القدرة على فتح تحقيق قضائي مستقل ونزيه في الموضوع، رغم أن منصبه الرسمي الحالي يساعده كثيرا إن أراد، ويسهل له المسطرة الواجب اتباعها.
واللافت للانتباه أن هذه التساؤلات التي عبر عنها أمين عام حزب العدالة والتنمية تطرح أيضا في العديد من الأوساط، وفي الكثير من المجالس بصيغ متعددة يتم تمطيطها أو اختصارها حسب الحالات، الأمر الذي يجعلها قريبة إلى الإشاعة منها إلى الحقيقة. ولكن في ظل غياب رد قاطع من المعني بالأمر مباشرة، ومن الجهات التي أشارت إليها الأصابع بالوقوف وراءه تكتسب هذه التساؤلات نوعا من المشروعية، وتغدو مستساغة لدى الرأي العام، بل ومقلقة أيضا، لاسيما وأن الحديث عن الدعم الأجنبي لتنظيمات وجمعيات ومؤسسات مغربية حديث متواتر، وبعضه مثبت من طرف جهات رقابية رسمية.
ومن المؤكد أن هذه المعلومة غير الموثوقة لحد الآن لغياب ما يؤكدها، ورفض المعنيين بها دحضها استفادت كثيرا لتنتزع مساحة أكبر من المصداقية مما جاء في تصريحات الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي رئيس حزب حراك تونس حول تخطيط إسرائيل، وتمويل الإمارات لما سماه الثورة المضادة في دول ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، مزكيا بذلك ما قاله الأمين العام لحزبه عن وجود عداء إماراتي للتجربة الديمقراطية التونسية، وإرادة دفع الأمور في تونس في اتجاه يشبه ما يحدث في مصر.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وجد بعض من يريد تصفية حسابات ما لديه مع الإمارات الفرصة سانحة ليستذكر ويذكر مجددا بتصريحات وتغريدات الفريق ضاحي خلفان القائد العام السابق لشرطة دبي، التي كانت تتوعد الحكومة المغربية التي يترأسها السيد بن كيران بالويل والثبور وعظائم الأمور، والتي خلفت حينها ردود فعل متباينة، خاصة وأن المعني بالأمر لا ينطق في مثل هذه الأمور عن الهوى، وإنما يتفوه بوحي ما إليه يوحى.
إن إدلاء السيد بن كيران باتهاماته تلك وسط أجواء اجتماع لأعضاء من حزبه أشار فيه أيضا إلى التاريخ الذي اقترحه لإجراء الانتخابات التشريعية المقبلة، وإلى عزمه خوض الحملة الانتخابية حين فتحها بذات الطريقة التي خاض بها حملات مختلف الاستحقاقات السابقة تعطي صورة عن الشراسة التي ستتسم بها المعركة التشريعية المنتظرة.
هذه الشراسة يمكن أن نستشفها أيضا مما كتبه السيد سليمان العمراني نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، منتقدا غياب المنافسة الديمقراطية في انتخابات الهيآت القيادية لحزب الأصالة والمعاصرة، الذي نعته بحزب التحكم، داعيا إياه "إذا أراد أن يكون حزبا حقيقيا محترما ونافعا للوطن" إلى أن يتخلى عن نهج التحكم في الأحزاب ، وفي الحياة السياسية والإعلامية والاقتصادية.
والواقع أن الإشارات عن سخونة المعركة الانتخابية غير مقتصرة على حزب العدالة والتنمية وحده، فهي ترد أيضا من كافة القوى السياسية، ما يعني أن إرهاصات مبكرة عنها وعن وطيسها الحامي ستبدأ عبر وسائل الإعلام إن لم تكن قد بدأت كما قرأ البعض في افتتاحية جريدة أخبار اليوم في عدد 26 يناير 2016، التي استخدمت فيها بدوافع مبهمة المدافع الثقيلة، التي هي عادة في العرف المغربي نبش الأعراض، والتعريض بالنسب أو بالآباء والأمهات.
وإذا كان كل ما سبق يدخل في إطار المخاطر المحتملة التي من شأنها توتير الساحة الداخلية، ونقل المناوشات إلى ردهات المراكز الأمنية والمحاكم، فإن الأخطر من ذلك قادم إن لم تتم فرملة السجالات وحصرها في نطاق السياسات والبرامج، وبين القوى السياسية المغربية وحدها، وبعيدا عن أي شبهة ارتباط مهما كانت ضئيلة بقوى أجنبية من أي حدب أو صوب كانت.
1/ إن ضراوة المواجهات السياسية المنتظرة استعدادا للاستحقاق التشريعي المقبل تدفع في اتجاه حشد مختلف القوى السياسية لقواعدها ومتعاطفيها، ناهيك عن رصد ميزانيات ضخمة للدعاية الانتخابية وما يدور في فلكها. ولعل هذا ما يتطلب المزيد من التحوط القانوني والسياسي من دخول الدعم الأجنبي الذي قد يرتدي أشكالا متعددة.
وبديهي أن التلميح إلى وجود جهة إماراتية ما وراء مشروع إعلامي بنكهة سياسية سيستدعي ولا شك ردود فعل مضادة قد تغمز من قناة قطرية أو تركية أو هما معا أو غيرهما، على غرار هذا النوع من التجاذب القائم في ساحات عربية أخرى. لقد اضطر الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي حين أدان ما أسماه التدخل الإماراتي في بلاده إلى تبرئة الدعم القطري قبل أن يعاير هو بذلك، مشيرا إلى أن دعم الدوحة ذهب كله إلى خزينة الدولة التونسية، وليس إلى جيب هذا وذاك، تعبيرا منه عن الدرك الأسفل الذي تهوي إليه الممارسة السياسية حين يدخلها الهواة والمغامرون.
ومع التطورات والمستجدات التي أحدثتها ثورات الربيع العربي واحتجاجاته لم يعد مستغربا أن تحصل تدخلات من هذا القبيل إذا كان البلد المعني مستباحا وغير محصن من أهله. فلم يعد احترام السيادات رادعا، كما لم تعد معظم التدخلات سرية، بل باتت في بعض الأحيان مطلوبة ومدعوة من فصائل من أهل البلد نفسه، خاصة في الساحات التي اختلط فيها حابل السياسة بنابل المدافع والبنادق.
ولا يختلف اثنان على أن كل الساحات التي استبيحت ماليا وأمنيا وعسكريا هي تلك التي بلغ فيها الاستقطاب السياسي والاجتماعي حدود التطرف والشطط، اللذين يسعيان إلى استئصال الآخر المختلف بدلا من التعايش معه. إن إرهاصات هذا الاستقطاب تستشف فيما يجري ترسيخه على نطاق واسع حول ثنائية الصراع الإسلامي / العلماني من دون أي تعريف أو تدقيق للمفاهيم، وبترويج تصريحات وتهجمات متبادلة أحيانا مختلقة، وطورا مدسوسة أو مبتورة من سياقها، وذلك لكي تبدو مستفزة للآخر وذات طابع عدواني مثلما نسب للسيد أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة بأنه آت لمحاربة الإسلاميين.
2/ لقد تبين أن ترويج مثل هذه الطروحات يستدعي ردودا أكثر تطرفا، كما جاء في حديث السيد سليمان العمراني المنوه عنه سابقا، الذي ذهب بعيدا عندما شبه حزب الأصالة والمعاصرة بنموذج حزبي الرئيسين المطاح بهما في كل من تونس ومصر، وعندما رأى في طريقة انتخاب قيادته الجديدة دليلا على إرادة النافذين فيه للتمكين لتيار واحد، غامزا بشكل لافت من باب ما أسماه "سراب النشأة".
وغير خاف على المتتبعين أن الغمز من ناحية ظروف نشأة حزب الأصالة والمعاصرة، وما لحقه من تطورات يتجاوز في القصد القيادة الجديدة وخاصة الأمين العام، الذي ربما عن حسن نية قدم طواعية ما يدعم هذا الغمز حين قال حسب جريدة الصباح ليوم 26 يناير 2016 بأنه لا يطمح لرئاسة الحكومة، ما أتاح للعديدين في المجالس والمنتديات الادعاء بأنه مجرد أرنب سباق لآخرين لإعادة إحياء مشاريع كانت قد تجاوزتها تطورات الخمس سنوات الأخيرة.
والأخطر من كل ما سبق هو أن تركيز الأضواء على المناوشات والمناكفات بين العدالة والتنمية وبين الأصالة والمعاصرة بدأ يعطي الانطباع بأن المعركة التشريعية المقبلة ستحسم بصراع الديكة بينهما فقط، فيما باقي القوى السياسية الأخرى ستكون في موقف المتفرج أو الداعم لهذا وذاك حسب القناعات أو المصالح ؛ الأمر الذي انتبه إليه فيما يبدو الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي خرج بتصريحات لافتة (جريدة الصباح ليوم 29/1/2016) تشير إلى أن كلا من أمين عام حزب العدالة والتنمية وأمين عام حزب الأصالة والمعاصرة يشكلان خطرا على المغرب، معتبرا حزبيهما ثنائية تفقيرية واختزالية تهدد الإصلاح والتحديث والديمقراطية.
وبالفعل، فإن مكمن الخطورة على التطور السياسي للبلاد هو في إشاعة هذا الانطباع الذي يعكس رغم عدم الاتفاق المسبق رغبة الحزبين معا في عدم بروز تيار ثالث يجسد طموحات الشعب وتطلعات قواه الحية، وخاصة إذا ما انبثق هذا التيار عن تحالف قوى اليسار التي لم تستنزف في السلطة بعد مع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية المتصاعدة بعيدا عن التأطير النقابي التقليدي، ومع قوى الشباب الصاعدة كما تجسدها روح حركة 20 فبراير، المهيأة لزرع حيوية جديدة في الحياة السياسية المغربية وإخراجها من رتابتها.
ويبدو أن التطورات تأخذ هذا المنحى، إذ يرسل حراك الساحة السياسية والنقابية المغربية الجاري حاليا إشارات واضحة عن أن الشعب المغربي يرفض أن يهان بحشر خياراته بين حواريي إلياس وبين مريدي بن كيران.