أحمد بيضي: أتخوف من سقوط السلمية عن التظاهر في ظل الانتهاكات والتراجعات السائدة

أحمد بيضي: أتخوف من سقوط السلمية عن التظاهر في ظل الانتهاكات والتراجعات السائدة

في سياق تضارب المواقف بين مكونات كتيبة الفريق الحكومي برئاسة بنكيران بخصوص منع المظاهرات وقمع الاحتجاجات بالعنف والقوة. هذا الحراك الاجتماعي، والذي دشنته الأطر العليا المعطلة مرورا بجمعيات المعطلين بمختلف درجات مستوياتهم التعليمية فضلا عن مختلف المسيرات الشبابية والنسائية، وصولا إلى حركة الطلبة الأطباء ثم الأساتذة المتدربين للتصدي لقرارات ذات الحكومة وإعمال القانون وأجرأة مضامين دستور 2011 للتأسيس لمغرب الحريات، في هذا السياق عادت عقارب الزمن المغربي لطرح قضية الحركات الاحتجاجية السلمية في الشارع العام وأمام مؤسسات الدولة ، ولمساءلة الوضع القانوني .

في هذا الشأن  فتحت " أنفاس بريس " و "الوطن والآن" صفحاتها لمختلف الفاعلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين والجمعويين لمناقشة الحق في التظاهر والاحتجاج وإبراز وجهة نظر المختصين في الموضوع ، وهذا نص الحوار مع الناشط الإعلامي والحقوقي، أحمد بيضي، عضو اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان، والمجلس الوطني للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان:

لا مبالغة في الجهر بأن ربط الوضع الحقوقي بالدستور المغربي أصبح شبيها، إلى حد بعيد، بأية محاولة لربط ضفتي واد عميق بعضها البعض، وذلك في ظل التراجعات المكشوفة عن عدد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي على أساسها صوتت نسبة كبيرة من الشعب المغربي ب "نعم" لدستور 2011، ولم تتوقع هذه النسبة من الشعب أن يخيب ظنها في عدم ملامسة التغيير الموعود، وأنها ستصطدم بالرجوع القوي لمرحلة ما قبل هذا الدستور، وبظواهر خطيرة اعتقد الجميع أنها ولت مع العهد البائد كالاعتقال السياسي وقمع الاحتجاجات وحبس الصحفيين وضرب التعدد اللغوي والثقافي، وتنامي العنف ضد النساء والأطفال، وانتهاك الحق المشروع في الإضراب والتشغيل والسكن والرأي والتعبير، وفي العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والتظاهر السلمي والسلامة الجسدية والأمان الشخصي، بل إلى حد ضرب حق التنقل، كما هو الحال بالنسبة للأساتذة المتدربين والمتضامنين معهم ممن تم منعهم من السفر إلى الرباط للمشاركة في مسيرة 24 يناير.

نعم ، دستور 2011 يضم مجموعة من الضمانات والالتزامات الحقوقية الهامة، لكن كل ما قلته يكشف الهوة المفتعلة بين ما هو مكتوب في هذا الدستور وحال هذه الحقوق على الميدان المعاش، وفي الوقت الغائم لا يمكن لأي أحد رؤية تغيير ما في الأفق ، ولو في وجود مؤشرات إيجابية حول النقاش الحقوقي بالمغرب ، والذي قد لن ينجح في وجود بعض العقليات القديمة ، إذ ، في الوقت الراهن، لا قيمة ل "حقوق فتية" سهلة الهضم من طرف " واضعيها " داخل بلاد لا تجد فيها الأوامر أي حرج من استعمال " الزرواطة " في الدوس على الدستور وخطاب تاسع مارس والأعراف الدولية من أجل تعذيب المحتجين وسط الشارع العام ، رغم أن سقف هؤلاء المحتجين لا يتجاوز نفسه، ولعله قد يزداد علوا كلما تمت محاولة هدمه.

يصعب جداً تجميل المرحلة الحرجة التي تمر منها بلادنا في الآونة الأخيرة، وهي مرحلة استثنائية بحجم ما تحمله من نبوءات عاصفية لا أحد يتكهن بعواقبها في مغرب يجمع على تعلقه بالأمان والاستقرار والاستثناء، وكل ذلك سببه التراجع عن أسس الديمقراطية الحقيقية القائمة بالأساس على احترام حقوق الإنسان، إلى جانب استفحال الأزمات الاجتماعية والسياسات الممنهجة من طرف حكومة استغلت الصلاحيات والتنازلات المخولة لها لتهاجم الطبقات الشعبية بالزيادات في الأسعار وانعدام فرص الشغل، والمراسيم الجائرة والقرارات اللاشعبية واللاديمقراطية، وبالتراجعات الخطيرة عن المكتسبات وتدني الخدمات الأساسية، والاستجابة السافرة للمؤسسات المالية الدولية والتستر على المفسدين الكبار ولوبيات الريع، ما كان بديهيا أن يفتح فضاء شوارعنا وهوامشنا للغليان والاحتقان والتظاهر، فتكون المعالجة بالقبضة الأمنية الحديدية.

وفي هذه المرحلة يكون التظاهر السلمي هو الحق المشروع المتبقي للإنسان المغربي المسالم، مع تخوف كبير من سقوط السلمية عنه في ظل القمع الذي تتعامل به المقاربة الأمنية ، وقد سبق لي أن حذرت من هذه المقاربة بنموذج أحداث الربيع التي لم يكن البوعزيزي وراءها، كما هو متداول فقط ، بل كانت وراءها الشرطية التي صفعت البوعزيزي على خده وأدت به إلى إحراق نفسه بالنار التي تطايرت شرارتها في كل أرجاء جغرافية العالم العربي ، ومن هنا لا بد من التأكيد على أن تحصين الحق المشروع في التظاهر السلمي هو الابتعاد عن الهاجس القمعي السلطوي والهواجس المظلمة.  

قوة المجتمع المدني هي العمود الفقري لكل ضغط على سلطة الاستبداد ، وقوتها الشعبية تتعمق أكثر كلما تردى الوضع العام على المستوي الاجتماعي أو الاقتصادي والثقافي، أو تفشت مساوئ الخدمات الأساسية، ونقول بلسان المنظر الفرنسي ألكسيس دي توكفيل بأن المجتمع المدني هو " حجر الأساس للديمقراطية "، سيما في تحديه لسيطرة الحكومات القمعية نحو معركة المصالح الاجتماعية والحقوق الديمقراطية للإنسان . ومن الإنصاف أن نعترف بدور الآلية الفاعلة للمجتمع المدني في التحول الديمقراطي، وحماية حقوق الإنسان والحريات من الانتهاك ، وأن نقر علانية بدور الحركات الاحتجاجية السلمية والحضارية في صنع وخلخلة الوعي الشعبي ، وتحطيم حائط الخوف بثقافة الاحتجاج ، وتعميق قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، وأقرب دليل هو ما نسجته حركة 20 فبراير والدينامية الشعبية السائدة ، فضلا عن الأساتذة المتدربين الذين تمكنوا من إلهام وإقناع الشارع المغربي بعدالة قضيتهم ومشاركتهم مسيرتهم الوطنية التي سجل فيها العالم حضور مختلف الهيئات الحقوقية والنسائية، إلى جانب الإطارات النقابية والسياسية والمدنية، بما فيها التنظيمات التي ظلت إلى وقت قريب تفتقد لاستقلالية القرار.

من حقي أن أشك في أن الحكومة الحالية تريد الاستقرار لهذا البلد ، من خلال خرجاتها ومزايداتها التي لا تؤكد إلا على المضي بعيدا في تعنتها ضدا على الصيحات المدنية والسياسية والاجتماعية والحقوقية، وإلا لماذا هي حريصة كل الحرص على عدم تنزيل الدستور الذي لا تنتقي منه إلا ما يصلح لها ولقاعدة شرعيتها ، وليس لتدبير الحلول المشتركة للإشكالات القائمة والنزاعات المفخخة ، وما تراجع هذه الحكومة عن المقاصة ورفعها لسن من سن التقاعد والتلاعب بالحوار الاجتماعي مع النقابات والتصدي للاحتجاجات الشعبية وانتهاك الحريات الأساسية وتعميق الفوارق الطبقية، وتكذيب المنظمات الدولية، ومحاكمة القضاة الداعين لإصلاح القضاء، والتهرب من عدم تحديد المسؤوليات واتخاذ الإجراءات بشأن التدخلات العنيفة، كلها سوى جزء من إصرار الحكومة على هتك القوانين والمواثيق والشرائع.

وأرى أن البطء أو التملص من أجرأة القوانين وضمان الحقوق، يعود بالأساس إلى بعض المزايدات السياسوية والمنطلقات الإيديولوجية ، وإلى العلاقات المتوترة بين هذه الحكومة وحقوق الإنسان، وبينها وبين باقي التنظيمات الجماهيرية والمدنية، بالأحرى التساؤل حول مدى تحكم رئيس الحكومة في ما يصدر عنه أو ما يملى عليه، إذا لم نقل ما يصدر نيابة عنه، ما يطرح أكثر من سؤال حول جدية هذه الحكومة في مجال حقوق الإنسان؟ وحول مدى قناعتها باحترام الحريات المدنية والسياسية؟.

ما دمنا نؤكد أن الوطن للجميع ، فمن اللازم أن تتمتع فيه جميع الفئات الشعبية بحقوقها وحرياتها المضمونة دستوريا ودوليا، كما لابد من التشديد على ضرورة التنزيل السليم والديمقراطي للدستور، مع إشراك منظمات المجتمع المدني في إنجاز القوانين التنظيمية المنصوص عليها دستوريا نظرا لما في ذلك من مراهنة على مستقبل بلادنا، وألا تكون الحكامة الحقوقية مجرد ورش للاستهلاك الإعلامي والدعائي.