لِمَ يصلح البرلمان؟ وما هي الفائدة التي يعود بها 515 برلمانيا (395 نائبا و120 مستشارا) يبتلعون الملايين شهريا «على ظهر» الشعب؟ هذا السؤال أصبح المغاربة يطرحونه اليوم بقوة، وبكل الوسائل الممكنة، بينما ظل لسنوات يُطْرح بخجل، لعل البرلمان يتطهر يوما من بعض السياسيين الانتهازيين الذين يحملون فهما خاصا للعمل البرلماني، والذي لا يبتعد كثيرا عن مفهوم «التوريث» (انظر «الوطن الآن» ع: 641 و642)، ولا عن «حكاية مسمار حجا» الذي يجعل من البرلمان واجهة للبقاء على قيد الحياة السياسية، بل هناك -وهذا هو الأفدح - من حوّل البرلمان إلى وظيفة معاشية يجف عرقه فيها بمجرد الفوز بالمقعد والحصول على الراتب مع جميع الامتيازات التي تغدقها الدولة على «ممثلي الشعب».
فإذا كان من المألوف أن نسمع أن البرلمان مؤسسة ديمقراطية لتشريع القوانين ومراقبة السلطة التنفيذية (الحكومة)، وأن دوره هو خدمة الشعب والسهر على راحته وتبني قضاياه، فإن ما نعاينه يوميا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن البرلمانيين يتجاوزون هذا «الفهم المدرسي»، لأنهم يعتقدون بشدة أن الشعب يقع في مكان آخر، وأنهم «المختارون» الذين أوصلتهم «أحزابهم» إلى الوجاهة الاجتماعية، وأن غاية وجودهم داخل «المسرح» هو ممارسة اللغط والضجيج.. وأحيانا النوم! وليس تلمس احتياجات الأمة والحرص على تحقيق الغاية الأسمى من تواجدهم بالمجلس كممثلين عن الشعب.
فبصرف النظر عن هؤلاء البرلمانيين -وهم قلة- الذين لهم دراية بالعمل البرلماني، ويدافعون عن أفكارهم بقوة، لأنهم يؤمنون بها وتشبعوا بها ، وبصرف النظر عن بعض التكنوقراط الذين لهم إلمام بالقطاعات التي يخوضون فيها، فإن الأصناف الأخرى (الوافدة - المفتقدة إلى الحس السياسي، العاشقة لـ «الكرمومة»...) تكتفي بإنتاج الضحك والاستعراض والضحالة..
ومعنى ذلك أن «الهدر البرلماني» حقيقة مغربية، وينبغي معالجتها بما ينبغي من صراحة. ولعل من أبرز المآخذ التي ينبغي التصدي لها بقوة، وبما يلزم من صرامة، هو لا مبالاة عدد من البرلمانيين تجاه ما يمس قضايا الوطن من مؤامرات تمس وحدته الوطنية ومصالحه الخارجية، ومن أبرزها الانتكاسات التي باتت تتعرض لها، في الآونة الأخيرة، القضية الوطنية الأولى في المحافل الدولية، وخاصة في أوربا. وتبقى أقواها تصويت البرلمان الأوربي لصالح توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل حقوق الانسان في الصحراء، فضلا عن الحكم الذي أصدرته المحكمة الأوروبية بإلغاء اتفاقية المنتجات الفلاحية والسمكية بالأقاليم الجنوبية، كما أن هولندا رفضت توقيع اتفاقية الضمان الاجتماعي مع المغرب بسبب الصحراء.
ويؤكد هذا المنحى أن هناك خللا فظيعا في السياسة الخارجية المغربية مقابل يقظة دبلوماسية لدى الطرف الآخر (الجزائر)، وأن هناك فشلا ذريعا على المستوى الدبلوماسي (وزارة وبرلمانا) في العلاقة بالمحيط الأوروبي الذي تربطنا به شراكة نتج عنها وضع متقدم. مما يستدعي لزوما وبإلحاح تفعيل الديبلوماسية البرلمانية والعمل على الاتصال بشكل دائم بالأحزاب والبرلمانات والفرق البرلمانية الأوروبية وغير الأوربية، خاصة أن الوعي بالحرب الشاملة التي يشنها الخصوم موجود ومتحقق. وهذا يتطلب، طبعا، بروفيلا برلمانيا بمواصفات دقيقة ومحددة، كما يتطلب إمكانات مادية ولوجستيكية مهمة ينبغي أن توضع رهن إشارة الديبلوماسيين البرلمانيين.
وهذا ما استجاب له المشرع إذ منذ بدء الولاية التشريعية الحالية (2011-2016)، كان يتم كل عام تخصيص غلاف مالي مهم يقدر بحوالي 30 مليون درهم لتغطية مصاريف الدبلوماسية البرلمانية للغرفتين معا، وهي مصاريف لا تشمل التعويضات الشهرية الممنوحة للبرلمانيين طبعا بل تهم بالأساس تعويض تنقل النواب والمستشارين إلى الخارج ومصاريف إيوائهم والهدايا التي يقدمها البرلمان للوفود الأجنبية وما شاكل ذلك (انظر الجداول رفقته)، علما أن المبلغ الذي تلتهمه الدبلوماسية البرلمانية كل عام (30 مليون درهم)، منذ مجيء حكومة بنكيران، يفوق بكثير الميزانية العامة بأكملها التي كانت مخصصة للولاية التشريعية الأولى برمتها 1963/1965، والتي وصلت آنذاك إلى: 22.723.186 درهم.
غير أن السؤال هو: هل لدينا نواب داخل البرلمان بوسعهم القيام بمهمة الدفاع عن القضية الوطنية في هذه الظروف الصعبة؟ هل لديهم الملكة الفكرية والدراية بالملفات، فضلا عن قوة الإقناع لكسب هذا الرهان؟ لقد قال الملك محمد السادس في 12 أكتوبر 2012 بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان: «نذكر بكون البرلمان أصبح يتوفر على كافة الوسائل من أجل قيام أعضائه بإعطاء دفعة جديدة لعمله الدبلوماسي والتعاون الدولي، من خلال إغناء علاقات الشراكة التي تربطه بالبرلمانات الأخرى، معززا بذلك حضور بلدنا في المحافل الدولية، لخدمة مصالحه العليا، وفي طليعتها قضية وحدتنا الترابية».
فإذا كان البرلمان المغربي يتوفر على الوسائل الضرورية لكسب الرهان الديبلوماسي، فهل نملك بالفعل برلمانيين قادرين على تحقيق الفوز في أوربا، وفي العمق الإفريقي، وفي معقل الخصوم بدول أمريكا اللاتينية، وعلى التغلغل هناك من أجل عقد اللقاءات وإبرام الصفقات وتحقيق الشراكات مع الأحزاب والمؤسسات؟
ذاك هو السؤال وتلك هي الإشكالية!!.
تفاصيل أوفى تطلعون عليها في عدد أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد حاليا في الأكشاك