إلى أين تقف حدود الإحسان ومبادرات المحسنين ؟ وما هو حال مؤسسة الإحسان في المغرب؟ وهل يمكن أن تنحصر المبادرات الإحسانية على الجانب التعبدي ذي المرجعية الدينية فتقتصر على بناء المساجد فحسب ؟و كيف يفسر التهافت على هذا النوع من الإحسان ؟ أسئلة تطرح، اليوم، إذا نظرنا إلى المفهوم الواسع للإحسان بحمولته الاجتماعية والتي تجعل قاعدة إنفاق ذوي الفضل والسعة شاملة أيضا لجوانب أخرى تهم السلوك والمعاملات وتتعلق أساسا بالعمل على دعم شرائح هشة ومحرومة من المجتمع تعيش في وضعية وظروف صعبة و عاجزة عن توفير متطلبات الحياة من صحة وتعليم وسكن وشغل إلخ... "أنفاس بريس" اتصلت بالأستاذ سفيان الحتاش، باحث في الشؤون الدينية والسياسية وطلبت منه قراءته للموضوع فوافاها بالورقة التالية :
يكتسي مفهوم الإحسان أهمية بالغة ومكانة كبيرة في المنظومة العقدية والفقهية الإسلامية المغربية فكرا وممارسة وسلوكا كما أن المجتمع المغربي معروف بتشبعه بقيم الإحسان والتضامن والتكافل إلى حد أن تاريخ المغرب حافل بالشخصيات الروحية والدينية التي أسست لمؤسسات احسانية تكافلية تضامية ذات فلسفة اجتماعية استمدت مصداقيتها من عرفان هذه الشخصيات وزهدها وحبها للقيم الإنسانية والإسلامية النبيلة التي كانت من المرتكزات التي تجذرت في البناء الحضاري للمدرسة المغربية تاريخيا وخير مثال نقدمه لهذه الشخصيات المغربية هو ابو العباس السبتي الذي بدأ مذهبه التضامني العملي بالإنفاق على طلبة العلم الواردين على مراكش. وما لبث أن اشتهر بالجلوس في الأسواق والطرقات، وحض الناس على الصدقة، ويذكر ما جاء في فضلها من الآيات والآثار، فتتوارد عليه الصدقات، فيفرقها على المساكين وينصرف. كان مذهبه يدور على هذا المنوال، أخذ المال من البعض وإعطائه للبعض الآخر، كان إذا أتاه أحد يطلب أو يشكو من أي شيء كان، يقول له: تصدق تصل إلى ما تريد، وجرب الناس عليه ذلك وصح فصار عندهم أعجوبة الزمان.
وبموازاة لهذه التجربة العملية كان يجتهد في تأصيل مذهبه من جهتين: 1) جهة النص وجهة الذوق، فمن جهة النص كان يستشهد بآيات القرآن الكريم التي ورد فيها الحض على الإنفاق عامة، والإحسان خاصة، سواء بالحرف أو بالمعنى، وهي آيات كثيرة، ومن وقائع السنة كان يذكر على الخصوص،أن الذي فتق وعيه وفتح بصيرته في البداية، هو العمل التضامني المؤسس لجماعة الإسلام الأولى في المدينة، على يد الرسول الأكرم، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، حيث قسم الأنصار أموالهم مع المهاجرين، وهو عمل المشاطرة، واستلهاما من هذا العمل، عقد أبو العباس النية مع الله ألا يأتيه شيء إلا شاطر فيه إخوانه المؤمنين الفقراء، أي قسمه معهم، عمل ذلك عشرين عاما، فصار لا يحكم على شيء بخاطره إلا صدق، ثم عاهد الله ألا يكتفي بإنفاق النصف، بل يمسك الثلث ويصرف الثلثين، عمل ذلك عشرين عاما أخرى، فأتم له الحكم في الخلق بالولاية والعزل، وفهم أن أول فرض هو شكر النعم، وحيث إن الصدقة الواجبة، وهي الزكاة، تصرف على سبعة أصناف، فقد وجد هو سبعة أصناف أخرى ينبغي أن يصرف عليهم على سبيل الإحسان، وهي النفس والأهل، ثم الرحم والضيف واليتيم وصنفان آخران. ثم زاد في الإنفاق بأن عقد مع الله أن كل ما يأتيه يمسك منه سبعا للنفس وسبعا للأهل، ويصرف خمسة أسباع لمستحقيها، أقام على ذلك أربعة عشر عاما فأثمر له الاستجابة التامة من السماء، فما قال يا رب إلا قال لبيك، وقال: لما تحقق لي ذلك علمت أنها نهاية أجلي. المصدر( ابو العباس السبتي ومذهبه في التضامن والتوحيد، د احمد التوفيق في درسه الحسني الأخير).
نلاحظ من خلال منهج أبو العباس السبتي التضامني ان فلسفة الإحسان ذات أفق اجتماعي وإنساني واسع جدا لا يقف عند منهج الإحسان من اجل الإحسان كما هو سائد اليوم عند الحركة الأصولية التي تختزل الإحسان في بناء المساجد مع أن فلسفة المسجد في الإسلام تقوم على مبدأ ان المسجد يستمد قدسيته وعظمته من كونه يخدم الإنسان من حيث أن المسجد في الإسلام هو رابطة للمجتمع بكل تفاصيله فهو مأوى من لا مأوى له كما نه له دورا تعليميا تثقيفيا... بالإضافة إلى أدواره الدينية والروحية فقدسيته من قدسية الإنسان الذي سجدت له الملائكة كما جاء في القران الكريم لأنه خليفة الله في الأرض( إني جاعل في الأرض خليفة) قران كريم. فلا قيمة للمسجد اذا كان الإنسان جائع وأمي وجاهل ومهان الكرامة ومسلوب الحرية وإلا فان الله غني عن العالمين وغني عن أية بناية ومؤسسة، ففلسفة الذات الإلهية في القران الكريم تفيد أن سيادة الله، والدفاع عن الله تعالى وخدمته تقتضي خدمة الناس والدفاع عن حقوقهم، أي أن سيادة الشعب والناس هي سيادة لله في عمقها، وأن الذي يسيء إلى الناس فإنه يسيء إلى الله، وأن عظمة الإنسان تكمن في خدمة الإنسان، فما كان للإنسان الذي خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والتراءب أن يخدم الله، ذلك أن الله عز وجل غني عن العالمين، وهذا المفهوم هو قرآني في جوهره وليس اختلاقا منا فقد بينته عدة آيات قرآنية، منها قوله عز وجل ” من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم” ففي هذه الآية يحل الله محل الإنسان ويحل الإنسان محل الله تعالى ، بحيث تصبح خدمة الإنسان ومساعدته ماديا بالأساس بمثابة إقراض لله تعالى، كما نقرأ في آية أخرى معنى يؤكد هذا المعنى بوجه آخر في قوله تعالى” أراءيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين”، وعلينا أن نلاحظ هنا أن الله تعالى في هذه الآية لم يجعل المكذبين بالدين فقط هم الذين ينكرون أصول الدين وأركان الإسلام ، فالمكذبون بالدين هم الذين يدعون اليتيم، ولا يحضون على طعام المسكين وقوت المساكين وأجور الموظفين البسطاء ومعاشهم التي يجهز عليها السيد بنكيران في الوقت الذي نلاحظ فيه ان المهربين الدينيين للحزب المتأسلم يهرولون الى بناء المساجد من أموال السعودية وقطر لنشر الفكر الوهابي التكفيري لاستهداف الأمن الروحي والاجتماعي للدولة والمجتمع في المغرب ، فتلك المساجد مساجد ضرار بالتعبير القرآني الإلهي حيث قال الله عز وجل. مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. صدق الله العظيم.