استفزاز جديد من أوروبا. مباشرة بعد الاستفزاز القضائي من محكمة الاتحاد الأوروبي التي دعت إلى إلغاء الاتفاقية الفلاحية المبرمة مع المغرب، يأتي استفزاز آخر من البرلمان الأوروبي في شكل توصية مرفوعة للأمم المتحدة تطالبها بضرورة توسيع صلاحيات بعثة المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في أقاليمنا الجنوبية.
لم تعد الاستفزازات الأوروبية مفاجئة كما قد يتوهم البعض ويحاول أن يروج، فهي تأتي الآن متتابعة وبالتدريج بطريقة لا تسمح للمغرب بالتقاط الأنفاس ومعالجة آثار الاستفزاز السابق، وتطويق تداعياته في عملية إنهاك مقصودة للجهود المغربية. هذه الاستفزازات المجانية استهلتها البرلمانات المحلية، وها هي تصعد نحو المؤسسات الأوروبية الجماعية.
ومع توالي هذه المواقف المستفزة للمغرب يبدو أن تركيز المحاولات المغربية لإيقافها على التحاور مع السلطات التنفيذية في الدول الأوروبية منفردة، أو مع المفوضية الأوروبية ببروكسيل لن يفيد على الإطلاق ؛ لا لشيء سوى لأن هذه السلطات التنفيذية الأوروبية ليست مطلقة اليدين في قراراتها، وتدرك جيدا حدود صلاحياتها، ومعنى استقلالية السلطات التشريعية والسلطات القضائية، التي لا سلطان لها عليها.
واللافت للانتباه في الموقفين الأخيرين الصادرين عن هيئات أوروبية جماعية هو التذرع والتحجج بالسعي لاحترام حقوق الإنسان في أبعادها السياسية برلمانيا، وفي أبعادها الاقتصادية قضائيا، انطلاقا من مسلمة راسخة وسائدة لدى الأوساط السياسية والحقوقية الأوروبية مفادها أن المغرب لا يعير حقوق الإنسان أي اعتبار مبدئي، ولا يتعامل مع تطويرها بقناعة، وإنما بشكل ظرفي فقط، وبمقدار ما يخدم تلميع صورته في الخارج وتجميلها.
ويذهب البعض بهذه المسلمة إلى حد الادعاء بأن ازدراء حقوق الإنسان في المغرب لا يقتصر على ساكنة الأقاليم الجنوبية التي يوجد من بينها من يجاهر بانتمائه للانفصاليين والدفاع عن أطروحتهم الرافضة للسيادة المغربية على الصحراء، ولكنه شائع أكثر في الأقاليم الشمالية للمملكة، حيث التعسف في استعمال السلطة لا يمس الأفراد فقط، وإنما يطال حتى بعض الجمعيات الحقوقية، التي تحظى بالاحترام والتقدير والمصداقية على الصعيد الدولي.
ومن المؤكد للذي يعيش في المغرب أن هذه المسلمة غير صحيحة في مجملها، ولكنها تكتسب مصداقيتها من ممارسات للأسف ما تزال موجودة على أرض الواقع، معظمها حالات فردية باتت متعددة ومتواترة وصادر بعضها عن مؤسسات وإدارات وأحيانا عن شخصيات نافذة، تطال الكثيرين بالإيذاء البدني والنفسي أو بالتضييق على الحرية والمس بالكرامة بالإقصاء والتهميش دون وجه حق بسبب وشاية أو نزوة حتى.
وغني عن الذكر أنه مقابل استصغار السلطات الرسمية لهذه الممارسات فهناك جهات محلية وتنظيمات حقوقية خارجية توثقها استنادا في بعض الأحيان على معطيات رسمية ( إحصائيات اكتظاظ السجون ، التضييق على القضاة مثلا )، لتبرهن من خلال عملية تراكمها عن وجود منحى عام في البلاد يتجه نحو التشدد وإعادة إنتاج أنواع جديدة من الاستبداد تضرب عرض الحائط بالمكتسبات التي تمت دسترتها في دستور 2011.
إن الاستفزازات الأوروبية ومن جهات أخرى أيضا ستتناسل، وستصل إلى مجالات غير متوقعة، كما يتضح من الأنباء المتداولة مؤخرا عن إقدام شركة طوطال الفرنسية عن وقف التنقيب عن النفط في أقاليمنا الجنوبية، وهو التوقيف الذي هللت له كثيرا قيادات المرتزقة، معتبرة إياه نجاحا دبلوماسيا جديدا لها، ومتوقعة إجراءات مماثلة من شركات عالمية أخرى تنشط في الصحراء المغربية.
وبطبيعة الحال، فإن جهود البوليزاريو في هذا السياق لن تتوقف خاصة وأنها تجد دعما وسندا قويا ليس فقط من الدولة الراعية لها، ولكن أيضا من الاتحاد الإفريقي، الذي رحبت رئيسة مفوضيته نكوسازانا دلاميني زوما بقرار محكمة العدل الأوروبية، مشيرة إلى أنه يمثل خطوة إيجابية في اتجاه منع ما أسمته زورا وبهتانا "انتهاك سيادة الشعب الصحراوي على موارده الطبيعية".
من هنا يتضح أن الرد على مثل هذه الاستفزازات التي ينبغي توقع الأسوإ منها، يتطلب استراتيجية وطنية شاملة تعبأ لها كل الطاقات، وليست فقط البيروقراطية التي احتكرت معالجة الملف في الكواليس ووصلت به إلى ما نحن فيه الآن، دون أن تستوعب بأن إرهاصات ونذر هذا الوضع لاحت منذ 10 أبريل 2014 في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، الذي اعتبر أن الوقت قد حان لدعوة جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة إلى الاعتراف بالمبدإ المؤكد بأن مصالح سكان هذه الأقاليم لها الأولوية في التمتع بثرواتها وفق ما جاء في البند 11 من المادة 73 من ميثاق الأمم المتحدة .
ولهذا، فإن الاستراتيجية المأمولة مطالبة بأن تقطع نهائيا مع كل أشكال عدم احترام حقوق الإنسان وامتهان كرامة البشر وتقفل كل الملفات العالقة بعيدا عن الحزازات الشخصية والحسابات الضيقة. ولا ضير في أن يتم البدء بذلك انطلاقا من أقاليمنا الجنوبية في سياق تنفيذ ما ورد في الخطاب الملكي من العيون بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر 2015، الذي ركز على إحداث القطيعة مع آلية اقتصاد الريع والامتيازات وضعف المبادرة الخاصة، ومع عقلية التمركز الإداري، وكلاهما استفادت منهما قلة قليلة مقابل تذمر وسخط عارمين من عدد كبير من الساكنة.
في هذا الصدد يرى مراقب أجنبي أن بعض الممارسات المغربية العفوية وغير المقصودة تحمل كما قال طابعا استفزازيا للأغلبية الساحقة من الساكنة هناك. وقد ذكر كمثال على ذلك حديث الرسميين المغاربة ومن بعدهم بعض وسائل الإعلام عن وجود أعيان في الصحراء، متناسين أن مصطلح "الأعيان" في حد ذاته مستفز، وأن المفروض هو سواسية الجميع أمام القانون في الحق والواجب والامتيازات أيضا إن كانت ستظل هنالك امتيازات.
وإذا كان المؤمل من الآليات التي ستعتمد لتنفيذ فكرة الحكم الذاتي وتنزيلها على أرض الواقع امتصاص هذا السخط وذلك التذمر تعبيرا عن مرحلة النضج التي وصل إليها المغرب، كما قال جلالة الملك، في تدبير ملف الوحدة الترابية، فإن الطرح الجهوي الذي دخل حديثا حيز التنفيذ ليس سوى خطوة أولية في هذا الاتجاه بالنسبة لأقاليمنا الجنوبية. خطوة تنبغي مواصلة تطويرها لقطع الطريق على المزيد من الضغوطات والاستفزازات المتسترة وراء قناع الدفاع عن حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية في الصحراء المغربية.
إن المغرب الواثق من حقه، العازم، كما جاء في الخطاب الملكي، على الوفاء بالتزاماته تجاه مواطنيه في الجنوب من خلال بناء نموذج تنموي متكامل ومندمج يرسخ دعائم الوحدة الترابية للمملكة بصفة نهائية، هو الذي عليه أن يبادر الآن بالمضي في تطبيق رؤيته للحكم الذاتي ولو في الحد الأدنى من دون انتظار رد الأطراف الأخرى للتفاوض حول محتواها. فهذا الرد ببساطة لن يأتي بعد أن مضت ثماني سنوات على المقترح المغربي، الذي حظي بصفة الجدية والمصداقية من قبل المجتمع الدولي.
تتطلب هذه المبادرة المنتظرة إجراء تعديلات على كل من الفصل 135 من الدستور الخاص بالجماعات الترابية للمملكة ليتضمن إشارة إلى منطقة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وعلى القانون التنظيمي للجهات، الذي يقسم أقاليمنا الجنوبية إلى جهتين تتضمن إحداهن اقليم طرفاية المسترجع منذ سنة 1958، وجمع كل أقاليم الصحراء في منطقة واحدة ستكون هي منطقة الحكم الذاتي وفق تشريعات مستلهمة من بنود المقترح المغربي للحكم الذاتي.
ومن شأن مبادرة كهذه أن تثبت للقاصي والداني وخصوصا لخصوم الوحدة الترابية المغربية أن المملكة المغربية في وضعها الراهن وبإجماع شعبها بعيدة عن أن تكون دولة ضعيفة تتأثر بالأحداث من حولها ولا تؤثر فيها، وإنما هي دولة لن ترضى أبدا أن تشرئب أعناق أهلها إلى الخارج أملا في هبوب رياح مواتية لتطلعاتها ؛ ذلك لأنها صاحبة رؤية وحاملة مشروع مجتمعي محلي، ومشروع وحدوي للمنطقة المغاربية كلها.
ومع ذلك فإن كل هذه الخطوات إذا اتخذت لن تمنع تواصل الاستفزازات التي يبدو من تواليها أنها ليست بريئة ومنطلقة من معطيات مبدئية. على العكس يوحي تواترها بأن الهدف منها السعي إلى توتير الجزء الغربي من العالم العربي، الذي لم يستعر فيه أي حراك شعبي دموي لحد الآن. ففي المغرب تم سريعا التجاوب إلى حد كبير وبشكل حضاري ودستوري مع معظم المطالب الشعبية، وفي الجزائر رغم ضراوة الاحتقان الاجتماعي ما تزال رواسب الحقبة السوداء نهاية القرن الماضي تكبح أي مغامرة من شأنها أن تقود إلى ما هو أسوأ بكثير رغم تعثر عملية الإصلاح المنشود، التي جمدتها أيضا الحالة الصحية المتدهورة لرئيس الجمهورية.
إن الكرة لتجاوز المأزق الراهن في ملعب الأشقاء بالجزائر، فهل يمدون يدهم لنتفادى سويا ما يتربص بالجميع، أم سيصرون على أن نظل أوفياء لاسم المركز الحدودي المقفل بيننا ؟