لماذا عُمربنجلون الآن؟
هل لمُجرد وفاءٌ إنسانيٍ مُستحقٍ من الرفاق والأصدقاء والأقارب؟ أم أن الأمر مُجرد رغبةً في التملك الدائم لذاكرةٍ حيةٍ طالما ووجهت بحروبِ النسيان والتّغييب؟ أم أنها الرداءة والضحالة وهي تحرضنا على الحنين الجارف للزمن الجميل، في ما يُشبه تمرينٍاً عابرٍاً في "المقاصة" العاطفية !
"مقاصةٌ" عاطفيةٌ قد تجعلنا نُبالغ في حُب الشهداء، امتعاضاً من هيمنة الرداءة وسيادة الانحطاط.
الحقيقة أن الواجب الأخلاقي تجاه الشهيد، لا ينفصل عن استحضار الفكرة والمشروع. فكرةٌ ومشروعٌ شكل عمر أيقونتهما الخالدة .
وهنا فالأمر لا علاقة له في المُطلق بأي نزعةٍ أصوليةٍ في تمثل التاريخ والزمن. لا ننتمي إلى مدرسةٍ تقدس الماضي وتُمجد الأشخاص. لكننا لا ننتمي كذلك الى خطٍ يعتبر الشهداء والتاريخ والأسماء الكبيرة عبئاً على حساباته الصغيرة .
الموقف من الأصولية في النظر إلى الماضي، لا يعد ذا مصداقيةٍ عندما يقترن بعقدة مرضيةٍ في النظر الى التاريخ و بمركب نقصٍ في النظر الى صُنّاع هذا التّاريخ .
وعموماً فعمر كان أول من سيَسْخَرُ -بروحه المَرحة وحسه النقدي الحاد- من أي محاولةٍ للتحنيط والتقديس. لكنه بالتأكيد كان يعرف -وهو الوفي في السياسة والحياة- أن الوفاء شرط واقف للنضال وصفةً أصليةً للمناضل.
ينتمي الشهيد عُمر بنجلون إلى تقليد نادرٍ في الحياة السياسية المغربية الحديثة؛ تقليد الجمع بين الفكر والسياسة. وهو بذلك يشكل داخل جيله امتداداً للثالوث اللامع للحركة الوطنية: علال الفاسي، عبد الله إبراهيم، ومحمد بلحسن الوزاني .
على أن مضمون مساهماته الفكرية، ونزوحه التقدمي الواضح، وتعدد واجهات نضاله، كل ذلك جعل منه في نفس الوقت يبتعد عن نموذج مثقف الحركة الوطنية، ليقترب أكثر الى التجسيد المغربي الحي الأكثر اكتمالاً لمفهوم المثقف العضوي .
لذلك يُشكل الشّهيد عُمر، في مسار الفكر السياسي المغربي، لحظة فارقةٌ وعنواناً بارزاً، لما يمكن تسميته بوعي الفعل السياسي لذاته وهويته، من خلال الابتعاد عن أنماط العفوية والتجريبية التي طالما أطرت فاعلو السياسة منذ زمن الحركة الوطنية .
إنه تجسيدٌ لجدلية الالتقاء الخلاقٍ للممارسة مع أسئلة التحليل والفكر، جدلية التقاء بناء المشروع السياسي مع الوعي الحاد بتاريخ المغرب، جدلية التقاء بناء التنظيم بالتمكن الذكي من التحولات الكبرى للمجتمع في الاقتصاد والاجتماع والثقافة ونمط الدولة، جدلية التقاء بناء الموقف المرحلي بالقراءة العميقة للسياق والمحيط، لردود الفعل المنتظرة، ولحجم للاستعداد المجتمعي والشعبي .
في أواسط عقد الستينات الرّصاصي، داخل السجن، وتحت حُكْمٍ قاسٍ ليس سوى الإعدام، سيكتب عمر نصاً سيصبح شهيراً داخل الحزب وفي أوساط اليسار داخل البلاد وخارجها، إنه المذكرة التنظيمية، هذه الوثيقة التي لعلها أول نصّ -في السياق المغربي- ينشغل بالقضايا التنظيمية برؤية نظرية وتجريدية لإشكاليات الفعل والعمل الحزبي والجماهيري، ظلت معالجتها تقتصر على مقاربةٍ حركية ضيقة .
وهو النّص الذي وقف على محدودية التجربة التنظيمية في إطار التجمعات العامة على مستوى المقاطعة أو الفرع، مُدافعاً على هندسةٍ تنظيميةٍ تنفتحُ على القطاعات المهنية، بغيةً تأثيراً أكبر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما سمح بمزاوجةً لبعدي التنظيم الأفقي والعمودي، داخل البنية الحزبية التي لا يمكن عزل منطق اشتغالها -بشكلٍ محايد- عن روح و فكرة وقيم المشروع الذي تحمل.
عشر سنواتٍ بعد ذلك، والرّصاص لايزال جاثماً على الزمن السياسي المغربي رغم شعارات "الإنفتاح"، وداخل السجن مرةً أخرى، سيكتب مسودة ما سيصبح المادة الخام للقسم الأول من التقرير الايديولوجي .
وبين هذين النّصين المُهيكلين لكُل تاريخ الحركة الاتحادية واليسار المغربي، سيكتب، داخل السجن مرةً أخرى، وهو المتابع بقضيةٍ مُلفقة العام 1966، وثيقته المعروفة حول العمل النقابي والتي ضمنها خُلاصاته النظرية والتاريخية من تجربته النقابية داخل قطاع البريد .
تُعد المُساهمة الفكرية لعُمر بنجلون، مساهمة كبرى، ليس فقط لأنها صنعت للاتحاديين أفقاً إيديولوجياً لنضالهم السياسي، ومنحت "المعنى" لحركيتهم التنظيمية والجماهيرية، بل لأنها أغنت الفكر السياسي المغربي، وشكلت في العديد من جوانبها إحدى ثوابت الثقافة السياسية لليسار، وركناً من أركان تراثه الفكري المشترك .
وهي بالتأكيد مُساهمةٌ ذات طبيعةٍ تأسيسية، ظلت غير قابلة للالتفاف رغم المُحاولات الطبيعية للتجاوز، والنقد وحتى النقض.
ولعل ما منحها هذا الوضع الاعتباري والرّمزي داخل أدبيات الحركة الاتحادية، وعموم اليسار المغربي، هو أصالتها من جهة، ومن جهة أخرى إنصاتها لأرقى الاجتهادات الفكرية في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتفاعُلها مع خلاصات المُنجز المعرفي المغربي في الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع والإقتصاد والتاريخ.
إن ما منح لهذه المُساهمة حياة أبعد من الحُدود الطبيعية لأدبيات الأحزاب، وجعل النصوص التي صاغها الشهيد -لحدود اليوم- عبارة فعلاً عن وثائق بلا تجاعيد، يعود لأمرين متداخلين :
- الأول: هو أننا في واقع الأمر أمام مُحاولةٍ تركيبية هائلة في فهم وتحليل المجتمع، بنيات التخلف، التشكيلة الطبقية، البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مغرب ما قبل الحماية، آليات الهيمنة والتدخل الكولونيالي، ودينامية بناء دولة ما بعد 1965.
-الثاني: هو أننا أمام رؤية فكرية بخلفية ايديولوجية مُنفتحةٍ، وبعيدة كل البعد عن الدوغمائية والأصولية المذهبية، وهذا ماسمح ببناء أطروحة تمتح من الاشتراكية في جانبها الجدلي والمنهجي والتحليلي، لكنها في نفس الوقت، تُعلن عن تجاوز نقديٍ للعديد من المقولات النظرية والسياسية المركزية في المحيط الايديولوجي للمرحلة، مثل ديكتاتورية البروليتاريا، المفهوم الماركسي للبنية الفوقية أو الدولة كتكثيف للشرط الاقتصادي، الدين كمُناهضٍ للتغيير، وصولاً الى مقولة الديمقراطية السياسية مجسدةً في البرلمان والانتخابات والمجالس كمُجرد شكلياتٍ ليبرالية ومحض وهمٍ بورجوازي.
سياق إقرار النّص النهائي للتقرير الإيديولوجي للاتحاد الاشتراكي، كما صادق عليه مؤتمره الاستثنائي في يناير 1975، عرف مساهمات أخرى (نذكر هنا أساساً ما تقدم به الاستاذ أحمد الحليمي في القسم المعنون بـ "اختيارنا الاشتراكي"، بالإضافة إلى مساهمة الأخ فتح الله ولعلو، وطبعاً إلى الراحل محمد عابد الجابري، الذي قام بتعريب ما كتبه الشهيد وإعادة صياغة وكتابة مجمل التقرير..)، وكان قد عرف بعض التفاوت في التقديرات بين الشهيد عمر وبين الرّاحل عبد الرحيم بوعبيد الذي اعتبر أن ما كتبه عمر بنجلون قد تمت صياغته بأسلوب ايديولوجي حاد.
وإذا كانت هذه التفاوتات الطبيعية قد تم تجاوزها في الصيغة الأخيرة للتقرير، فإنها تأشر على حيوية الحركة الاتحادية، في إحدى منعطفاتها الكبرى، لقد كان القائد السياسي التاريخي يخشى من الانزلاق وراء تحجيم حركة سياسية مليئة بالتناقضات، تشكل امتداداً لحركة التحرير الشعبية، في مجرد قالبٍ ايديولوجي ضيقٍ، في مقابل المُنظر والقائد الشاب المهووس بفكرة الوضوح الايديولوجي، والذي يفكر في عرضٍ إيديولوجي تنافسيٍ في أوساط الشبيبة والطلبة والمثقفين، في سياقٍ وطني ودولي يغلي بالأفكار الكبرى والأحلام المُلهمة.
لم يكتب الشهيد فقط في قضايا التنظيم والنقابة والاشتراكية والصراع الطبقي، بل كتب بنفس الذكاء الاستثنائي و الالتِزامٍ الصّارم والعمقٍ الشديد، في القضية الفلسطينية، التي منحها من حياتهِ السريعة والمكثفة الشيء الكثير، حتى استحق لقب عمر الفلسطيني.
هكذا كان متعدداً، قادراً على أن يصهر حيواتٍ مُتجاورة في تجربةٍ إنسانية واحدة. لقد كان في الآن نفسه نقابياً و سياسياً، مُحامياً وصحفياً، مُنظراً و ممارساً، وطنياً وأممياً .
في حياته السريعة والمكثفة كنقطة ضوء، سيلخص كل قرننا المغربي الأخير، وكل إحباطاتنا الوطنية وكل آمال التحرر والديمقراطية والعدالة .
سيلتحق، في وجدة، تلميذاً بحزب الاستقلال في النفس الأخير من الاستعمار، ومن باريس سيرافق وهو مسؤول طلابي مغاربيٌ ولادة الامتداد التقدمي للحركة الوطنية، ليلتحق بالمغرب مطلع الستينيات إطاراً عالياً بالبريد ومسؤولاً نقابياً وفي قلب مخاضات الحركة الاتحادية، ليعتقل في مؤامرة 1963، ويحكم بالإعدام في مارس 1964، ليخرج في ربيع 1965، ليعتقل من جديد في مارس 1966، ثم يغادر السجن بعد عام ونصف، ليعود إليه في مارس 1973، بعد مرورٍ قاسٍ في درب مولاي الشريف تلقى خلاله الشهيد أبشع أنواع التعذيب (وصل الأمر إلى حد حقنه بمصل الحقيقة، وكانت جلسات التعذيب تستغرق في بعض المرات 14ساعة متواصلة، في إحدى الليالي تم تكبيله ورميه في عرض البحر مع احتفاظ جلاديه برأسه داخل الماء إلى أن يوشك على فقدان الوعي، ثم يحملوه على ظهر المركب ليعيدوا طرح نفس الأسئلة، ثم تتكرر العملية عدة مرات)، لتبرأه في ما بعد المحكمة العسكرية، لكن وقبيل إطلاق سراحه سيتابع بتهمة جديدة، قبل أن يخرج لتدبير إعلام الحزب والتحضير للمؤتمر الاستثنائي .
ثم، قبل أربعين سنةً من اليوم، سينفذ فيه حكم إعدام تأجل تنفيذه اثنا عشرة سنة، بعد تغييرٍ طفيفٍ في الإخراج وفي المُنفذين، وخاصةً بعد فشل محاولةٍ أولى عرفت بحكاية الطرد الملغوم، كاد يذهب ضحيتها عام 1973رفقة الشهيد /الحي الأخ محمد اليازغي .
عمر الذي قرأ [الرأسمال] لمقاومة ملل المحكومين بالإعدام، وغنى فريد الأطرش في سهرات السجن المركزي، مُضاعفاً من منسوب المرح والفكاهة كعناصر للمقاومة، استغل تردده المُستمر على السجون لتعميق قراءاته حول تاريخ المغرب، والفقه وعلم الكلام والتراث الإسلامي.
ظل الشهيد عُمر، سواءٌ في انشغاله بالتنظيم المُطابق للوظيفة الحزبية، أو في هاجسه المركزي المُرتبط ببلورة رؤيةٍ مذهبية مُرشدةٍ للممارسة، يبدو كما لو أن قدر السياسة المغربية، قد أناط به مُهمة الإجابة الملموسة على الأسئلة الحارقة التي طرحها الشهيد المهدي بن بركة في الاختيار الثوري حول موضوع بناء الأداة الحزبية العصرية، المعبئة من أجل التغيير في اتجاه تقدمي، خدمة للجماهير الشعبية.
الكلمة المفتاح، هنا في هذا السياق، داخل مشروع هذه الجواب، هي "الوضوح"، الوضوح كغايةٍ قُصوى للمعركة الايديولوجية التي قادها عمر بنجلون، الوضوح في الفكر والسياسة والتنظيم، الوضوح في العلاقة مع المجتمع ومع الدولة، الوضوح في الأفق الاستراتيجي وفي التقديرات المرحلية.. الوضوح الذي يعاكس الازدواجية والالتباس، الغموض والالتواء.
الوضوح باعتباره [النظرة المنسجمة حول الأسباب والحلول والوسائل]، القادرة على إنتاج (فكرة شاملة و منسجمة، فكرة لا تبرر الواقع و الإخفاق، و إنما تعبر عن الواقع، و عن الحلول الضرورية من اجل تغييره).
لماذا قد نحتاجُ اليوم إلى الشهيد عمر، في سياقٍ فقد معه اليسار مواقعه التقليدية في أوساط الشباب والنساء والمجتمع المدني، وداخل فئات الطبقات الوسطى، ومعها فقد -في جزءٍ كبيرٍ منه- الأهم: المبادرة السياسية المُستقلة؟
نحتاجه، لكي نسترشد بدرسه الأول في المنهج؛ وهو يدعو إلى التمييز بين الرؤية الاستراتيجية المعبرة عن الهوية الفكرية والأفق الايديولوجي، وبين التدبير المرحلي الذي قد يسمح بتحالفاتٍ أو مواقف ظرفيةٍ. غير أن هذه المواقف لا تأخذ مدلولها ومغزاها إلا إذا قرأت من منظور الرؤية البعيدة والأفق الممتد.
يقول الشهيد: "إن وضوح الإطار الإيديولوجي ومعه مسيرة النضال والتحرير والبناء يعني تحديد المقاييس للحكم على المواقف التكتيكية، والتمييز بين الانتصارات والإخفاقات. إنه يجعلنا نطرح القضايا بعمق وهدوء، نولي الأسبقية للمضمون على الشكل والحماس".
وهو ما يعني أن الممارسة اليسارية للسياسة، ليست مجرد تجميع كميٌ للخُطوات الظرفية وللمواقف العابرة، بقدر ما هي موائمةٌ دائمة لتفاصيل الخط السياسي مع مرجعياته القيمية والفكرية الكبرى .
لماذا قد نحتاجُ اليوم الى الشهيد عمر، في سياقٍ فقد معه اليسار نفوذه الفكري وإشعاعه الثقافي وقدرته على إثارة الرّغبة في الحُلم؟
نحتاجه، لكي نسترشد بدرسه الأول في الفكر، وهو يدعو الى الإيمان بأن المعركة السياسية هي بالضرورة معركة فكريةٌ ضد الخلط والتضليل، معركة تحليلٍ وفهمٍ، توضيحٍ وإقناعٍ، وهو ما يجعلها معركة ايديولوجية بالتعريف وبالقوة .
يقول الشهيد عُمر "إن التضليل والخلط يشكلان نوع أساسيا من أنواع القمع الذي تمارسه الرجعية والطبقات المستغلة. إن التضليل سلاح فعال لديها في مواجهة حركات التحرير الشعبية، سلاح يمكنها أولا وقبل كل شيء من إخفاء هويتها الحقيقية ودورها الحقيقي، و من إخفاء الأسباب العميقة في قمع ومطاردة المناضلين".
لماذا قد نحتاج اليوم إلى الشهيد عمر، في سياقٍ فقد معه اليسار تفوقه الأخلاقي، ولم يعد المناضل اليساري بالضرورة وبالتعريف مناضلاً بمسلكياتٍ مثاليةٍ، مناضلاً نموذجياً على مستويات التضحية، النزاهة والاستقامة ، في كل واجهات العمل الحزبي والمدني والجماهيري، وفي تدبير الشأن العام .
نحتاجه، لكي نسترشد بدرسه الأول في الأخلاق، وهو يدعو بلا كللٍ إلى جوهر المدرسة البوعبيدية، مدرسة عبدالرحيم بوعبيد، التي تجعل من الأخلاق شرطاً وجودياً للسياسة.
يقول الشهيد: "إن النضال هو مسألة أخلاق".
لماذا نحتاجُ اليوم إلى الشهيد عُمر؟
نحتاج إليه، لأن فكره حيٌ، وقيمه خالدةٌ .
نحتاجٌ إليه، لأن مشروعه ينتمي إلى المستقبل .
(هذه الورقة أعِدَّت، للمشاركة في اللقاء الذي نُظِّمَ بمسرح عبد الرحيم بوعبيد بالمحمدية، يوم 18 دجنبر2015، تخليداً للذكرى الأربعون على اغتيال الشهيد عمر بنجلون، المنظمة من طرف أسرته وأصدقائه ورفاقة، تحت شعار "الوطن والديمقراطية: ضد الإرهاب"، وألقي نصها، مع بعض الاختصار، في هذا اللقاء)