ذهبت البارحة ليلاً إلى صيدلية الحراسة الليلية، فوجدتها مكتظة عن آخرها بالزبناء (مرضى ومرافقيهم)، لكن عند بابها جلست امرأة تستجدي الحاضرين بصوت شجي حنون مستعينة بالسجع، ومفتعلة البكاء بدموع تماسيح تحاول جاهدة سكبها ذرفها، لاستدراج عطف الناس بمسرحية سمجة وعرض بليد.
ورغم بلاهة المسرحية وصاحبتها، استطاعت المرأة جذب انتباه زبناء الصيدلية، علهم يشتروا لها دواء، وبما أن الكل حاضرٌ وقد ترك مريضا بالبيت ينتظره، فقد استدرت عطفهم وكسبت عطاءهم برضى كامل، فكانوا كرماء معها إلى أقصى حدود، لعل وعسى تكون الصدقة شفاءً لمرضاهم، وفعلا ففي الحديث النبوي الشريف "داووا مرضاكم بالصدقة" لكن يجب وضعها في مكانها الصائب واللائق،
نعم صدقة قليلة تمنع بلاوي كثيرة لكن في مكانها وموقعها ولمن يستحقها.
اقتربت منها وسألتها ما المشكل؟ قالت:إن لها ابنة في مقتبل العمر، طريحة الفراش نتيجة طفحٍ جلدي انتشر في عموم جسدها خصوصا في وجهها، وطلبت مني كما فعلت مع الآخرين، أن اشتري لها الدواء، أخذت علبة الدواء الفارغة فألفيته من خلال اسمه: عبارة عن فيتامينات لا أكثر ولا أقل، فقط عبارة عن مكملات مقوية ومنعشة!!!!
فقلت لها هذه فيتامينات لاغير، لا علاقة لها بالمرض الجلدي وليست دواءً استعجاليا!
فأخذت تتمتم :"لا لا ، الطبيب أعطاني إياه، وهو الذي وصفه لي"جريمة غير كاملة ودوماً المحتال ينسى او يغيب عنه مُعطى...
فتركتها وقد بقيتُ قرابة الربع ساعة، أنتظر دوري بحكم الزحام وكثرة الزبناء وكأن أبناء الحي كلهم مرضى، وكلما حضر زبون توسلت إليه المرأة المحترفة بكلامها المعسول، فجمعت مالا كثيرا يكفي لشراء العشرات بل المئات من الأدوية!
تقدمت إلى الصيدلي وأخبرته أن المتسولة تحرج وتزعج زبنائهم وجريمتها غير مكتملة، واقترحت أن يحضر رجلا للحراسة
علَّه يزجرها ويمنعها من ابتزاز الناس ويطردها من المكان، فمثل هده الأصناف المحترفة المحتالة لا يصلح معها إلا الحزم،
فيروى انه رأى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سائلا يقول: "من يعشينى؟ من يعشينى؟ فقال: عشوَه. ثم وجده بعد ساعة يمشى في الشارع يقول: من يعشينى؟ فيقول عمر: ألم أأمر أن تعشوه، فيردوا: عشيناه يا أمير المؤمنين.. فأتى به عمر وقال له: أنت ليس بسائل أنت تاجر، فضربه ضرباً مبرحاً وأقسم عليه بعدم تكرارها وإلا عرضه لعقوبة أقصى.
فهده كذلك محتالة تبتز الناس، تتقن صناعة النصب والاحتيال والإيقاع بضحاياها بالشحاذة المقنعة، لا ينفع معها إقناع أو جدال
وما زاد الطين بلة، أنه لفت نظري عندما هممت بمغادرة الصيدلية التحاق امرأة ثانية منقبة وانضمامها إلى الأولى.
وبنفس الخطة، تطلب الناس أن يساعدوها في شراء دواء، فانصرفت لحالي وقد أشفقت عليهما، لأن المتسولتين الخادعتين، إنما يخدعان نفسيهما، نعم وسيلة سهلة بدون تعب لتحصيل المال لكن بزوال العزة والكرامة: أغلى ما يملك الآدمي، هو إراقة ماء الوجه وإنزال النفس منزلة حقيرة وفي الحضيض، فلا شك أن يمد أحدهم يده أسهل من أن يقوم فجراً لعمله ويعود عصراً، نعم سيكسبان المال الكثير وفي لحظات قليلة لكنه مال حرام، والمال الحرام الذي أصله خداع وغش وتدليس وتمثيل على الناس الأبرياء إنما مصيره الوبال على صاحبه أولا وأخيراً.
أما من كان لديه فضل مال، فلا يرمي بماله في الهواء يمنة ويسرة هباءً منثوراً، بل يبحث عن من يستحقه من أهل الحاجة والفاقة الذين لا يسألون الناس إلحافاً المتعففين، الذي لا يمدون أيديهم لأحد، عزةً و حياءً وخجلاً، ومن لا يجد هذا الصنف العفيف الكفيف، فليدفع صدقته إلى الجمعيات الاجتماعية والمؤسسات الخيرية حتى يضع المسلم ماله في أيد أمينة مختصة توصله لمستحقيه. وهمسة أخيرة في أذن المحتالين والنصابين محترفي التسول فما من مرة تسلم الجرة، فسيفتضح أمرهم يوما ما، "يمكنك أن تكذب على جميع الناس بعض الوقت، ويمكنك أن تكذب على بعض الناس طوال الوقت، لكن لا يمكنك أن تكذب على جميع الناس طوال الوقت" ابراهام لينكولن"..