لحسن العسبي: الاشتراكية بين الممكن العالمي والحاجة المغربية

لحسن العسبي: الاشتراكية بين الممكن العالمي والحاجة المغربية

تفرض العولمة ومنطق نظام السوق الحديث، إعادة قراءة متجددة لدور الاشتراكية في العالم اليوم. بما يفيد أن الحاجة إلى هذا التوجه السياسي (في معناه الفلسفي وفي معناه الاقتصادي وفي معناه المجتمعي) هي حاجة ملحة لإعادة ترتيب أولويات بناء مستقبل البشرية. لأنه، قبل طرح السؤال: ما معنى أن تكون اشتراكيا اليوم؟ أو أن نطرح ذلك السؤال الاستنكاري: هل لا تزال ثمة حاجة إلى الاشتراكية اليوم؟ لا بد من طرح سؤال أشمل وأعمق، هو: ما معنى الدولة اليوم، وما هي أدوراها في تنظيم وحماية مصالح الأفراد والجماعات في المستقبل، أمام تغول منطق نظام السوق في معناه الليبرالي المتوحش؟ أليس معنى "الحداثة" هنا، كامنا، في مدى الانتصار فعليا لقيم حماية حقوق الإنسان، في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمجالية. وأن ذلك هو دور التوجه الاشتراكي مستقبلا.

لأنه، أمام اتساع جغرافيات التطرف السياسي عالميا، بسبب الأزمة في فلسفة التدبير، الذي أصبح يؤطر معنى الدولة اليوم، والذي سرع من بروز "أزمة الهويات"، يعود واضحا وجليا سؤال "أزمة المشاريع المجتمعية" في العالم. مما يجعل البشرية، تجد نفسها أمام عطب في الفكر وفي إنضاج الأجوبة المجددة، الموجهة، للمشاريع التاريخية الكبرى، الذي لا يفضي في نهاية المطاف سوى صوب التغول في الفكر وفي الممارسة. أكثر من ذلك، فإنه لا يفضي سوى إلى اتساع نسيج الانغلاقية والتطرف المستند على منطق "الخوف على الهويات" الذي هو مجرد هروب من واقع، غير باعث للأمل في تحقيق حلم التعايش والتكامل.

ها هنا يكمن، في ما أتصور، عمق الأزمة التي تواجهها البشرية اليوم، الذي يطرح في العمق معنى السياسة ومعنى الدولة، وأدوارهما في جعل الفرد منخرطا ضمن أفق لمشروع مجتمعي موسع لأسباب التكامل بين الجهات، منظم للسوق، بالشكل الذي يجعل الكرة الأرضية، فضاء للتعاضد والتكامل والمشاركة في صناعة مستقبل هذه القرية الصغيرة، التي نجحت ثقافة الصورة في أن تجعلها بيتا مشتركا لكل بني البشر، على مستوى إنتاج القيم.

إن الرؤية، إلى الاشتراكية اليوم، لا يمكن أن تكون معزولة عن هذا المعنى العام، لواقع العلاقات الدولية. مما يجعلها عمليا، اشتراكيات متعددة، بتعدد شكل أدوار كل مجتمع (بخصوصياته الثقافية والتنموية وبناه الاجتماعية ومدى تملكه لأسباب العلم والتكنولوجيا)، ضمن منظومة السوق العالمية. وأن الأزمة المركبة الآخذة بخناق العالم اليوم، التي نجد ترجماتها في اتساع أشكال التطرف السياسي والثقافي والديني، هي التي تجعل إلحاحية الرهان على الجواب الاشتراكي كبيرة وواضحة. وهذا يطرح تحديا معرفيا ورؤيويا على الفكر الاشتراكي نفسه، كي يبدع من داخله جوابا سياسيا ومعرفيا جديدا، يقدم الحلول للأزمة السياسية القيمية الآخذة بخناق البشرية اليوم. وهذا بعض مما تحاول منظمة دولية مثل "الأممية الاشتراكية" أن تطرحه من خلال نوعية برامجها ونقاشاتها خلال 15 سنة الأخيرة، سواء في شقها الاقتصادي المحض، أو في شقها التدبيري لتحقيق "الحكامة".

لقد فرض التراكم التكنولوجي في العالم، واقعا جديدا لنظام السوق، تهاوت فيه نهائيا معادلات التدافع الكلاسيكية، التي أفرزها النظام العالمي لما بعد 1492، الذي نقل أمر التحكم في التجارة العالمية، حينها، من البر إلى البحر. ونقل، بالاستتباع، ثقل القرار السياسي والقيمي والحضاري عالميا، من "جغرافيات العرب والمسلمين" إلى جغرافيات "الغرب المسيحيين". بكل ما أفضى إليه ذلك، في ما بعد، من معنى جديد للدولة المركزية، المسنودة بـ "نظام للمدينة" جديد، منظم للخدمات، منذ القرن 16، فارض لدورة إنتاج جديدة ولسوق استهلاك جديدة، ولإنتاج للثروة والتحكم في توزيعها جديد، انتهى إلى غلبة الشمال على الجنوب، من خلال موجات متعددة الأشكال لفرض منطق للنظام العالمي على امتداد 3 قرون منذ القرن 18 حتى القرن 20 (كانت قمته هي تجربة الاستعمار كمنهج تحكمي مباشر، طيلة القرن 19 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وميلاد هيئة الأمم المتحدة سنة 1948، استنادا على مبادئ ويلسون الأمريكية 14 لحق الشعوب في تقرير المصير وحماية السلم العالمي، التي صدرت قبل، مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918).

لقد فرض، إذن، التراكم التكنولوجي هذا (في كافة أبعاده التواصلية، وعلى مستوى البنى التحتية، وعلى مستوى تملك الفرد للمعارف)، تبلور خريطة جديدة، خلال الربع قرن الماضي، لإنتاج الثروة عبر العالم، من خلال بروز لمجموعات بشرية، من الجنوب، أنضجها شكل تدبيري حداثي للدولة بها، وضع نقطة النهاية للقطبية الكلاسيكية عالميا بين الشمال والجنوب، كما تبلورت منذ 1492. وأصبح العالم مؤطرا من خلال تعدد، لما يمكن تسميته ب "قطبيات جهوية وقارية جديدة". جعلت لأول مرة منذ 4 قرون، دولا كانت ضحية للاستعمار، قوى صاعدة خلقت توازنا جديدا للنظام العالمي ولدورة إنتاج الثروة فوق الكرة الأرضية، مثل: الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا ومجموعة ثنينات الهند الصينية. مما أصبح معه إلزاميا، تغيير البنية المعرفية للتحليل السياسي الكلاسيكية، التي كان قد أفرزها أساسا منطق غلبة الشمال الغربي على الجنوب المتعدد الهويات. وقد كان من ضمنه، الجواب الاشتراكي، كما بلوره الصراع الطبقي العمالي/ الرأسمالي بالمجتمعات الصناعية للشمال، الذي تحول ليصبح نموذجا عالميا، يبشر لمشاريع مجتمعية حداثية، عادلة، تشاركية ومنصفة.

هذا يعني، أن الاشتراكية اليوم، أصبح إلزاما عليها، أن تعيد موضعة أطروحاتها ومشروعها المجتمعي، ضمن أفق عالمي جديد، مختلف تماما عن المنطق الذي أفرز اشتراكية القرن 19 والقرن 20. أي أن تصبح الاشتراكية في القرن 21، هي اشتراكية متعددة، بتعدد الأقطاب الجدد للنظام العالمي الجديد، الذي تبلور منذ سقوط جدار برلين سنة 1989.

ها هنا، تبرز أهمية تجربة الاشتراكيين المغاربة، ليس فقط ضمن عمقهم المغاربي والعربي والإسلامي، بل ضمن عمقهم العالم ثالثي. كونهم انتبهوا باكرا إلى أهمية الاستقلال برؤية سياسية لثقافة اشتراكية، نابعة من عمقهم المغربي، متصالحة مع ممكنات ما تهبه تربة الثقافة السياسية للمغاربة، في بعديها الدولتي والمجتمعي. وهذا أمر تحقق من خلال الأرضية السياسية التي بلورتها الحركة الاتحادية البوعبيدية (نسبة إلى الزعيم الكاريزمي عبد الرحيم بوعبيد) في مؤتمرها الاستثنائي ليوم 11 يناير 1975، وللتاريخ هنا مغزاه المغربي الخاص، المحيل على نوع من تجديد وثيقة "11 يناير 1944" التي لم تؤطر، حينها، فقط المطلب الشعبي المغربي للاستقلال، بالتنسيق بين الحركة الوطنية والقصر، بل وضعت الخطاطة للمغرب الجديد، كملكية دستورية ديمقراطية. وأرضية 1975، تلك، هي التي ستعرف في التاريخ السياسي الحزبي المغربي الحديث بـ "استراتيجية النضال الديمقراطي"، التي بلورت الشعار السياسي للاشتراكية المغربية المحدد في ثالوث "اشتراكية/ ديمقراطية/ تحرير". وبلورتها أيضا وثائق تحليلية أخرى لا تقل أهمية، لعل أشهرها وثيقة "أزمة المشروع المجتمعي" خلال المؤتمر الثالث للحزب سنة 1978، ثم وثيقة "28 نونبر 2008"، التحليلية النقدية لقراءة حصيلة 10 سنوات من المشاركة في الحكومة.

إن معنى الاشتراكية اليوم، إذن، كامن في الاجتهاد لبلورة رؤية سياسية جديدة، منصفة مجاليا عبر قارات الكرة الأرضية (وهنا التجربة الإفريقية حاسمة وهامة، كونها قارة ناهضة، مستقطبة لطموحات العالم الاقتصادية خلال القرن 21 كله). ومنصفة مجاليا، أيضا، جهويا وإقليميا (مشروع المغرب العربي وبلورة الفضاء الآفرو متوسطي من طنجة حتى قناة السويس، كمثال في ما يخصنا مغربيا). ومنصفة مجاليا، أولا وأخيرا، في جغرافيتنا المغربية دولة ومجتمع. هذا يسميه البعض "مواجهة العولمة"، بينما الحقيقة، أن الأمر أعمق من ذلك، لأن الوجود البشري كله أصبح مهددا فوق الكرة الأرضية بسبب أزمة المناخ كنتيجة لشكل من التدبير التنموي لنظام السوق. وأن التحدي اليوم، هو بلورة رؤية جديدة لمشاريع مجتمعية عبر العالم، تعيد موضعة دور الدولة، تبعا لخصوصية كل مجموعة بشرية عبر العالم، تؤطرها منظومة تدبيرية وتراكم في التجربة التنظيمية لمعنى الدولة، وقيمة وحجم مساهمتها ضمن منظومة الإنتاج العالمي.

إننا، في حالتنا المغربية، ملزمون، بإعادة بلورة مشروع جديد للفكرة الاشتراكية، تجدد العلاقة مع السؤال الديني كقيم حضارية وكونية، بذات الأفق الذي بلورته السلفية العقلانية والوطنية المغربية في ثلاثينات القرن 20، من خلال سيرة أقطابها الكبار أبى شعيب الدكالي وشيخ الإسلام بلعربي العلوي والمختار السوسي وعبد الله كنون. مثلما تجدد العلاقة مع سؤال المشروع المجتمعي المغربي، عبر سؤال الحداثة، في معناها التنموي المنصف، المحقق للتوزيع العادل للثروات بين الأفراد والجهات. وأن يكون ذلك، كله، من خلال الدفع نحو إعادة بلورة ترسيم خريطة جديدة لدفتر تحملات الدولة المغربية، يجعلها أداة ناظمة لسلاسة تحقق ذلك الإنصاف المجالي التنموي والحقوقي والثقافي. بهذا وحده، يصبح للفكرة الاشتراكية المغربية، مشروعها المستقطب (ضدا على منطق التقاطب). ويصبح لها دورها النوعي، ضمن منظومة سؤال الاشتراكية العالمية. بما يساهم في وضع العنوان الجديد، على أن مشروع الاشتراكية عالميا، وحضاريا، خلال القرن 21 كله، كامن ليس فقط في تجاوز بعض وهم التنازع بين "الاشتراكية الديمقراطية" و"الديمقراطية الاشتراكية". على اعتبار أن الأولى منتصرة لنظام اقتصادي يطمح إلى الانتقال من الاقتصاد الرأسمالي صوب الاقتصاد الاشتراكي. بينما الثانية تؤمن أساسا بأهمية إصلاح النظام الرأسمالي ليكون أكثر إنسانية وإنصافا في مجال توزيع الثروة. ليس ذلك فقط، بل في بلورة معنى جديد لقيمة السياسة في عالم اليوم، يكون للدولة فيه دور حمائي، توازني، كعنوان أسمى لمعنى سيادة القانون، الذي هو العنوان الأسمى لضمان التحضر وقيم حقوق الإنسان في معناها الحضاري. وأيضا أن تكون الضامن لحماية الحقوق الاجتماعية لكل الشرائح المجتمعية، بما يعزز من روح التضامن، الذي هو الترياق لتجسير الثقة بين قوى الإنتاج في المجتمع. وأن ذلك لا يمكن أن يتحقق بدون حماية لدور الطبقة المتوسطة، بصفتها صمام الأمان لإنتاج القيم التكاملية المفرملة لكل ممكنات التطرف بين الغنى والفقر.

واهم، إذن، من يعتقد بنهاية وموت الفكرة الاشتراكية مغربيا أو عالميا. بل إن ميلادها الجديد، كوعد، أصبح قائما اليوم بشكل أكثر إلحاحية، أمام تغول التطرفات المتراكبة عالميا هنا وهناك. لأنها باب أخرى لمنح الأمل للإنسان وللبشرية، كونها البنية الفكرية المؤهلة أكثر لبلورة أجوبة تاريخية حول تحديات عالم الغد.