لكل منا قصته الخاصة. ولا تكتمل القصة إلا مع نهايتها. وتسمح لنا النهاية باستعادة القصة لنراها بصورة مختلفة عن بدايتها وتطورها. تماما كالفيلم السينمائي لا نحيط بأجوائه إلا بعد نهايته حيث نبدأ بملمة مختلف أجزائه لنعطي للقصة التي يقدمها لنا دلالتها. هذا ما وجدتني أقوم به، وأنا أقرأ خبر وفاة الصديق العزيز مصطفى المسناوي في القاهرة، حيث كان مشاركا في أعمال مهرجان حول الفيلم السينمائي.
كان خبر وفاته كالصاعقة، فزوال مثقف من عياره يعد خسارة للثقافة المغربية والعربية. وكلما فقدنا شخصيات من هذا العيار، كان الحزن، وكانت الذكرى. ولما كانت نهاية قصة شخصية تدفعنا إلى استعادة تاريخها، والعمل على تكوين رؤية شاملة عن مسارها، يبدو لي أن أحسن ذكرى يمكن أن توقفنا هي استحضار الأدوار التي قامت بها الشخصية في حياتها، لتكون إضاءات للأجيال القادمة، ليس للتذكر فقط، ولكن لاستخلاص ما يمكن استخلاصه لتحويل موت الشخصية إلى حياة من أجل المستقبل. وهذا هو الرهان الأساس الذي يعمل بموجبه أي كاتب أو مثقف.
عرفت المسناوي الإدريسي أولا من خلال مجلة «الثقافة الجديدة» التي كان من بين المساهمين في تحريرها إلى جانب محمد بنيس ومحمد البكري والراحل عبد الله راجع وعبد الكريم برشيد، قبل أن أتعرف عليه مباشرة بعد التحاقي بالعمل في الدارالبيضاء في أواخر السبعينيات، حيث كانت الإعدادية التي أعمل فيها قريبة من بيت والده. وكنت ألقاه مرارا، ونتبادل الأحاديث. كما عرفته في اتحاد كتاب المغرب، والنادي السينمائي، وفي الندوات التي كانت تعقد حول القضية الفلسطينية، سافرنا مرارا إلى مرابد العراق، ورأيته عن كثب عندما اشتغلت في كلية الآداب ابن امسيك في الدار البيضاء. وظلت العلاقة قوية، ولو عن بعد، لتفرق المسارات وتعدد الفضاءات.
تبين لي من خلال هذه المعرفة أن المسناوي يمثل صورة دقيقة للمثقف المغربي والعربي في السبعينيات. فهو مهووس بالتغيير الاجتماعي والسياسي، وحامل لقضايا تتعدى الوطن إلى الأمة، ومنشغل بقضايا الفكر والأدب. وكل ذلك يجعله متعدد المهارات والثقافات واللغات، ويساهم في كل المجالات، إنه حسب المثل المغربي، صاحب «سبع صنايع». يمكن التمثيل لهذه الصنائع السبع مما يلي:
تخصص المسناوي في الفلسفة، ولعل اختياره لها دال على ارتباطه بهموم الوطن، حين كانت الفلسفة، حسب النظام، متهمة. لكن الفلسفة ظلت في خلفيته الفكرية، رغم أنه في بداية حياته كتب مقالات فلسفية واعدة، ولعل أهمها نقاشاته مع ناصيف نصار، التي أبانت عن قدرة وذكاء ملحوظين في التفكير الفلسفي. يبرز هذا البعد الفلسفي في إقدامه على ترجمة غولدمان، وكتاب الطاهر لبيب حول الغزل العذري حين كان مع محمد بنيس يعملان في الثقافة الجديدة التي كانت تسعى إلى خلق أفق جديد في التفكير والتنظير.
وحين كتب القصة القصيرة، لمع اسمه بسرعة فائقة، وأثارت قصصه القراء في المغرب والوطن العربي، فعد من مجددي القصة القصيرة، وما زالت قصته عن «الأطوروت»، ومجموعته «طارق الذي لم يفتح الأندلس» في الذاكرة. ولعل القصة جعلته مرتبطا بالصحافة، فتحمل مسؤولية جريدة «الجامعة»، وشارك بمقالاته الصحافية في مختلف الجرائد الوطنية، وظلت مقالاته المعنونة «يا أمة ضحكت…» دالة على فطنته وذكائه. ولم يتوقف ولعه بالصحافة والترجمة، إذ عمل على إصدار مجلة «بيت الحكمة» التي جعلها مكرسة لترجمة الفكر العالمي. لم يتوقف اهتمام المسناوي بما هو لغوي، من خلال الكتابة والترجمة، بل تعدى ذلك إلى الصورة، فكان ولعه بالسينما وثقافته السينمائية دافعا للانخراط في عوالمها، وصار من ألمع من يكتب عن السينما. كل هذه الصنائع التي انشغل بها في مسار حياته، تولدت من عشقه للوطن، وعمله من أجل تغييره، فكان الفاعل الثقافي الذي تحمل المسؤولية في الثقافة الجديدة، التي تم توقيفها إلى جانب مجلات أخرى، وبالمكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب في أوج ازدهاره، وفي ديوان وزارة الثقافة حين كانت المعارضة في الحكومة. ولم يكن نشاطه الثقافي سوى واجهة لميولاته السياسية التي جعلته يؤدي شطرا من شبابه في الاعتقال. إن هذه الصورة المختزلة عن حياة مليئة بالتحولات جعلت المسناوي المثقف المتعدد، والمنشغل بمختلف القضايا الفنية والإعلامية والأدبية والثقافية والسياسية التي تهم الوطن. وهو في كل هذه الممارسات كانت ينطلق من رؤية واضحة لما يجب القيام به، بإخلاص ونكران ذات. أصدر الجريدة والمجلة في زمان كانت المطالبة بالمكافأة، أو انتظار المقابل المادي، ضربا من المستحيل. كان المثقف يصرف من جيبه، ويرى أن ذلك جزء من عمله الثقافي الذي كان يعتبر عملا نضاليا.
كانت الأحلام كبيرة والتبدلات متعددة، وكان مصطفى المسناوي يواجه الواقع دائما بـ»الابتسامة الساخرة» وبحس نقدي مبدع. ويبدو لي هذا هو مفتاح استمراره في العطاء. المسناوي ابن سبعينيات المغرب المتطلع إلى المستقبل، لذلك كان متعدد الواجهات والانشغالات. ماذا يبقى من صورة المثقف المتعدد؟ تبدل الزمان، فماذا هي الصورة التي يمكن أن يأخذها المثقف الآن من أجل المستقبل؟ إنه السؤال.