محمد منير: تجديد الدين .. دعوة لتحرير العقل والنقل

محمد منير: تجديد الدين .. دعوة لتحرير العقل والنقل

يوما عن يوم يزداد الإلحاح بشدة على التجديد والتغيير في حياة الإنسان بشكل متنامي ومضطرد، ولهذا لا تألوا الدول المتقدمة جهدا لتلبية هذه الرغبات البشرية لجعل الحياة أكثر راحة وأكثر اطمئنانا، وتسخر لهذا الأغراض النبيلة العلم والمال والعلماء والوقت والظروف الملائمة من مؤسسات متخصصة ومتفرغة تفرغا تاما فتأتي النتائج طيبة، ومع مرور الزمن أثبتت هذه المؤسسات جدواها وجديتها، فما كان عليهم من حرج أن يضخوا مزيدا من الأموال والدعم اللازم للبحث المتواصل لحل المشاكل التي لا تنتهي.

ويوما عن يوم يطرح السؤال وبإلحاح أشد في الدول العربية والإسلامية عن اليوم الذي ستبدأ فيه هذه السياسات، وأن تحذو حذو جيرانها في أوربا على شاكلة هذه المؤسسات المتخصصة في البحث العلمي حقيقة، وليس على ما جرى به عندنا من مؤسسات العبث والغثث وهدر الأموال وجعجعة ولا طحين، وإن كان العقلاء قديما قد قالوا "لا تدع عمل اليوم إلى الغد" حتى لا تقع في تراكمات الإنتظارات وتلاحقات الإستحقاقات وضرورات التغيير والتجديد، فقد كان عقلاء اليوم الغربيون أعقل منهم وأبصر في النظر إلى مآلات الأحداث ومجريات الأمور وتطوراتها، فقاموا باستباقها وابتدروها بالقراءة والدرس والتحليل ثم التجربة تلو التجربة حتى تتباين النتائج وتنجلي ثم ينزلونها تنزيلا.

إن الرغبة والإرادة في الإصلاح هو الخيط الرفيع والوحيد الذي يفصل بيننا وبينهم، وهو المُعامل الذي يسرع في التخلي والقطع مع الكسل الذهني والإخلاد إلى المألوف واستنهاض العقل العربي وبعث الروح فيه من جديد للتجديد، فقد أثبت هذا العقل أنه فذ وذكي عبر قرون النهضة الإسلامية في كل الميادين بدون استثناء، ولكن العقل إذا اضطهد أو كان تابعا لسلطان جاهل جائر فلا رجاء في عطاءه إلا إذا بعث من جديد ومرن تمرينات متواصلة تعيد إليه لياقته ورحابته في الإبداع.  

والإجابة على الأسئلة العالقة والإشكالات الشائكة مما جدّ واستجد من أنماط الحياة والمصالح المتنوعة، تستلزم ولادة ثانية لعقل سوي الفهم والإدراك لأنه مناط التكليف، ولا يمكن تحصيل هذا إلا بمخاض عسير وجهد جهيد والحرية المطلقة من أي قيد أو صلة سياسية وإيديولوجية أو سلطوية، ومما يجدر البدء به من جملة الأولويات تحرير الدين من المعتقدات الزائفة والأفكار التالفة مما استحدث فيه مما ليس في الكتاب والسنة الصحيحة المليحة، وإن كان التابعون وتابعوهم اجتهدوا فقد استلزم منهم زمانهم ذلك فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وكلا وُعِد الحسنى، وما توقف الإجتهاد إلا بتدخل السلطان بقمعه وسجنه ثم جاء الإستعمار ليجهز على البقية الباقية.

وبلمحة قصيرة في التاريخ الإسلامي يتبين لكل ذي نصف ذكاء أن العلماء كانوا دائما مضطهدين ومجبرين على مداهنة السلطان أو مسايرته ابتداء من سنة 41هـ أي منذ عهد الأمويين إلى يومنا هذا، ومن خالف أو رفض الإنصياع كان نصيبه التنكيل والقتل ولا تكاد تخلو سير العلماء العاملين من محنة أو ابتلاء، وأولهم الإمام مالك بن أنس مع أبو جعفر المنصور العباسي في فتوى "يمين المُكرَهِ" وكذلك الإمام أحمد ومحنة خلق القرآن مع المأمون العباسي، وهذا القاضي عياض المجاهد المغربي ومحنته مع الموحدين في فتنة وعصمة المهدي ابن تومرت الذي قتله شر قتلة وما هذا إلا غيض من فيض.

ذلك وأن تجديد الحياة من تجديد الدين إذ لا تكتمل اليقظة الدينية ولا مقاصدها الجامعة إلا باستشراف حاجيات النفس والمجتمع واقعا محليا وإقليميا ودوليا شاملا لكل المجالات، والرجوع إلى التجربة بالنقل الصحيح والعقل المليح ثم النقد بلا نقض والتخلص من ربقة الموروث التاريخي المحجر على العقول ، ذلك وأن ديننا جاء بما يؤكد هذه النظرية العقلانية عبر قول الله تعالى: ((فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ )) 122 التوبة، وعن أَبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)) أخرجه أبو داود ، وصححه الألباني ، ذلك وأن مصلحة الإنسانية في الدنيا والآخرة توجد حيث يوجد شرع الله كما قال بذلك ابن القيم.

ويبقى البحث عن المحرك الحقيقي والمحفز والمجدد للعقل العربي الإسلامي ، هل هم الحكام بما لهم من تسلط جبري على الشعوب ؟ أم الحكومات بما هي مقيدة بهذه السلطة؟ أم النخب المثقفة من علماء ومؤرخين ومفكرين بما لهم من انتماءات وطرائق قددا، تجعلهم منعزلين عن الأمة تفكيرا ومنهجا؟ إن ما نحتاجه بداية هو تحرير العقل وتحديثه  لأنه خَلَقَ وبَلِي وتحصينه من المؤثرات المذهبية والسياسية والسلطوية وبعدها يأتي تجديد الدين.