كان السي مصطفى أستاذا لي قبل أن ألتحق بجريدة الاتحاد. درسني الفلسفة في بداية التسعينيات، وكان هو صاحب فكرة ورشة الإبداع بكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء؛ تلك التجربة التي رعاها بعد ذلك، وبمحبة واسعة، أستاذنا الكبير علي القرشي، ثم جاء بعده الأساتذة: قاسم مرغاطا، مصطفى لجباري، عبد المجيد جحفة.. والأستاذة لطيفة لبصير أيضا التي رافقت بصبر واقتدار نصوصنا الشعثاء.. لم يكن أستاذنا يشبه الأساتذة الآخرين، ولم يكن يشبه ربطة العنق أو ذلك اللباس المربوط بالأسمنت، بتعبير الشاعر عبد الله راجع. وكان بوسعه أن يجالس الطلبة في مقصف الكلية، وأن يناقشهم في قضايا الشأن العام، وأن يجادل بهدوء، و أن يحاجج بكياسة، وأن يقنع ويقتنع بدون أي مركب نقص. وعرفنا أنه قاص ومثقف، وأنه ناقد سينمائي وتلفزي، وأنه مترجم، وأنه مفرد بصيغة الجمع. وبحكم اهتمامي بالقصة القصيرة، كان لا بد أن أبحث عن "طارق الذي لم يفتح الأندلس" التي طالما قرأت عنها دون أن أقرأها. وبالفعل، حصلت عليها من أحد الأصدقاء، وعرفت آنذاك أننا أمام رائد من رواد الوعي القصصي الذي اشتغل على اللغة وبناء الأشكال والتجريب والفانطاسيك، وعرفنا من هو عبد الله سامسا، ومن هو كافكا، وما معنى أن تفتح للقص ممكنات أخرى، وما معنى أن تلتقط الدال من القراءة، والمدلول من الحياة، وما معنى التشاكل الدلالي والجمالي.. لم يقل لنا أستاذنا أبدا أنه قاص، وأنه من هؤلاء الذين عرفوا كيف يروضون الصراع ما بين الإيديولوجي والجمالي في نصوصهم. كان يلقي درسه الفلسفي ويمضي. وكان يستقبل نصوصنا، وهي في ارتعاشتها الطفولية، بحفاوة الكبار. يدلي لنا بملاحظات ويفتح لنا أفقا آخر للبحث والانتماء لعالم الكتابة. لم يكن أستاذا يتعمد أن تفصلنا عنه منصة المدرج، بل كان مرشدا دون أن يدعي ذلك. وعرفنا أنه من مؤسسي مجلة الثقافة الجديدة، تلك المجلة كانت ذات توجه نقدي وإبداع، ومكنت باقتدار كبير جيل السبعينيات من نشر تجاربه الأدبية والفنية، ومن التعبير بحرية عن آرائه ومواقفه النقدية، وفتح حوار متواصل مع أهم المثقفين النقديين في المغرب وخارجه.. وعرفنا أنه صاحب جريدة "الجامعة" التي كانت تخاطب الطلب، وتربي فيهم حس البحث الأكاديمي.. وعرفنا أنه دعامة من دعائم مجلة "بيت الحكمة"، وأنه صاحب ركن "يا أمت ضحكت" بجريدة الاتحاد الاشتراكي التي لم يكن يقتنيها، آنذاك، سوى الشجعان.. وكان ذلك الركن ترجمة لروح السخرية التي طالما تشبع بها في كتاباته القصصية. ألم يكن يعتبر أن "الكتابة الساخرة ضرورة ملحة، وأننا كي نتجاوز اللغة الصماء من الضروري أن نلجأ إلى الكتابة الساخرة التي لا يمكن أن تكون إلا سياسية"؟ وعرفنا أنه ناقد سينمائي، وأنه عاشق للسينما ومنشغل حتى النخاع بتطورها، وكان يرى أن السينما المغربية هي من بين السينمات التي تسير نحو نوع من التميز وأنها استطاعت أن تحقق تراكماً لا بأس به على مستوى الإنتاج، وعلى مستوى الجماليات والرؤية الفنية.. وعرفنا أنه متابع جيد للإنتاج السينمائي العالمي، وكان يكفي أن تطلب منه فيلما تفترض أنه نادر حتى يبادر إلى إخراجه كساحر يخرج أرنبا من قبعة.. وهكذا مكنني شخصيا من أفلام كوروساوا وفلليني وروسوليني وفيم فاندرز وبيتر فير وتاركوفسكي.. إلخ. لقد كان أستاذنا الراحل من هؤلاء النقاد السينمائيين، وهم معدودون على رؤوس الأصابع، الذين يواكبون الفيلم المغربي بالدراسة والتحليل. حيث تميزت كتاباته النقدية بالوضوح والتماسك والانسجام والتمكن من آليات التعامل مع الإبداع السينمائي من زاوية العالم، وليس من زاوية المحابي أو الطبال. ويكفي إلقاء نظرة واحدة على كتابة "أبحاث في السينما المغربية" لنقف على حقيقة هذا الأمر. كما يتضح اهتمامه السينمائي في مساهمته في صياغة الكتتاب الأبيض حول استراتيجية النهوض بقطاع السينما بالمغرب، وذلك ضمن لجنة علمية وازنة، من بين أعضائها عبد الله ساعف، الراحل محمد العربي المساري، محمد كلاوي، غيثة الخياط، صارم الفاسي الفهري، محمد عبد الرحمان التازي، نوفل براوي، نجيب بنكيران، حسن الصميلي، صباح بنداوود، فاطمة الافريقي، حكيم بلعباس.. إلخ. وحين كنا نعتقد بأن السينما قتلت القصة أو انتصرت عليها، وأن عبد الله سامسا غفا إلى غير رجعة، فاجأنا الراحل بمجموعته القصصية الثانية "أحلام الشاهد السبعة" التي كان لي شرف تقديمها بالمعرض الدولي للكتاب قبل ثلاث سنوات.. وعرفت منه حينذاك أنه لم يتوقف أبدا عن كتابة القصة، وأنه أنتج العشرات من القصص التي تنتظر في الدرج من يطرد عنها النوم.. رحم الله أستاذي المسناوي الذي عاش غنيا بعلمه، ومات غنيا بأحبائه وطلبته وزملائه..